الفصل الرابع والثلاثون
كان الممر المفضي إلى الدير يفوح برائحة البخور والخبز ولمح يوري راهبًا قويًّا نشيطًا وفي يده وعاء فصاح به يوري: «أيها الأب!» واضطرب لمخاطبته بهذه العبارة وظن الراهب سيحار مثله ويرتبك.
فسأله الراهب بأدب وكانت بينهما سحب من البخور: «ماذ تبغي؟» فقال يوري: «أليس هنا طائفة من الزوار آتون من المدينة؟» فأجابه الراهب على الفور كأنما كان يتوقع هذا السؤال: «نعم في رقم ٧.»
ففتح يوري الباب فألقى غرفة يتلوى في جوها دخان الطباق ورأى ضوءًا قريبًا من شرفتيها وسمع أصوات الكئوس والشاربين وضحكاتهم وكان شافروف يتكلم ويقول: «إن الحياة داء عياء.» فصاح به إيفانوف: «وأنت مغفل لا شفاء لك! ألا تستطيع أن تكف عن صوغك الأبدي لهذه العبارات السخيفة.»
ودخل يوري فاستقبلوه بأعظم الترحيب وأصخبه ووثب شافروف إلى قدميه وكاد يجر غطاء المائدة عنها وهو يصافح يوري ويقول له: «ما أعظم سروري بحضورك! الحق أن هذا فضل كبير منك! أشكرك كثيرًا.»
فجلس يوري بين سانين وبيتر الليتش وجعل ينظر حوله، وكان في الشرفة مصباحان مضيئان وكأنما وراءهما من الظلمة جدار، ولكنه مع ذلك استطاع أن يرى النجوم تومض في قبة السماء وأن يلمح الجبل عند الأفق ورءوس الأشجار العالية وسطح الماء اللامع، وكانت الفراشات تأتي من الغاب وتدور بالمصباح ثم تسقط على المائدة وتموت موتًا بطيئًا، فقال يوري لنفسه وكأنه يرثي لمصرع هذه الفراشات: «ونحن أيضًا كهذه الفراشات نرتمي على النار ونحوم حول كل فكرة براقة لنقضي نحبنا آخر الأمر، ونتوهم أن الفكرة هي مظهر إرادة الحياة، على حين ليست إلا النار التي تذيب عقولنا.»
فقال سانين ومد إليه يده بالزجاجة: «والآن فلتشرب.»
فقال يوري: «بكل سرور.» وخطر له أن هذا يكاد يكون خير ما يسعه أن يصنع بل هو في الواقع كل ما بقي عليه أن يفعله.
فشربوا جميعًا، وكان مذاق الفودكا في فم يوري بشعًا حارًّا مرًّا كالسم فعالجه بالخضر، ولكن هذه أيضًا لم تكن أحسن طعمًا فلم يسغها حلقه. وقال لنفسه: «كلا! سواء علي الموت وسيبريا، إنما المهم أن أزايل هذا المكان كله! ولكن أين أذهب؟ إن الحياة سواء في كل مكان ولا مهرب لي من نفسي، ومتى شرع المرء يفكر في الحياة فأخلق بها أن لا تعود أي صورة منها مرضية سواء أعاش في جحر كهذا أم في بطرسبرج.»
وقال شافروف: «إني أرى أن الإنسان لا شيء من حيث هو فرد.» فنظر يوري إلى وجهه الغبي وعينيه المتعبتين الصغيرتين الباديتين من وراء النظارة، وقال لنفسه: «إن مثل هذا لا شيء في الحقيقة.» ومضى شافروف فقال: «إن الفرد صفر، وما يرزق القوة الحقيقية إلا الذين يخرجون من صفوف الجماهير ولا يفقدون الاتصال بها ولا يقاومونها كما يفعل أبطال الطبقات الوسطى.»
فسأله إيفانوف بلهجة المتحفز: «وفي أي شيء تكون قوتهم من فضلك؟ أتظهر قوتهم في محاربة الحكومة الفعلية؟ ربما؟! ولكن كيف تساعدهم الجماهير في جهادهم في سبيل السعادة الشخصية؟» فقال شافروف: «آه! هذا أنت! إنك رجل ضخم من طراز السوبر مان. ولذلك تنشد نوعًا من السعادة يلائمك، ولكننا نحن الأوساط نرى أن جهادنا في سبيل الغير هو السعادة. انتصار الفكرة هو قوام السعادة!»
فسأله إيفانوف: «وهب الفكرة كانت خطأ؟»
فقال شافروف: «هذا لا يهم! إن الإيمان هو كل شيء.» وهز رأسه معاندًا. فقال إيفانوف بازدراء: «ياه! إن كل امرئ يعتقد أن عمله أهم عمل وأن الدنيا لا يسعها الاستغناء عنه، حتى حائك ثياب السيدات يظن ذلك ويتوهمه! وأنت تعلم هذا حق العلم، وإن كنت قد نسيته على ما يظهر وإذ كنت صديقًا لك فليس يسعني إلا أن أذكرك!»
– فنظر يوري إلى إيفانوف نظرة البغض والمقت وسأله بلهجة الزراية: «وما هو قوام السعادة في رأيك؟»
فقال إيفانوف: «إن قوامها على التحقيق ليس الزفرات والأنات التي لا آخر لها ولا التساؤل الذي لا ينتهي كأن يظل المرء حياته يقول: «لقد عطست الآن. فهل كان هذا صوابًا؟ أليس ذلك خليقًا أن يضر بعضهم؟ هل أديت واجبي وقمت بمهمتي إذ عطست؟» فغاظ يوري أن يلمح أن إيفانوف يظن نفسه أذكى منه وأن يتضاحك به فأجابه: «إن هذا ليس برنامجًا.» وحمل لهجته ما استطاع من الازدراء.
فقال إيفانوف: «أبك حقًّا حاجة إلى برنامج؟ إني إذا شئت واستطعت أن أفعل شيئًا فعلته. هذا هو برنامجي.» فقال شافروف بحدة: «ما أجمله من برنامج!» وهو يوري كتفيه ولم يجب.
وظلوا لحظة أخرى يشربون في صمت ثم التفت يوري إلى سانين وشرع يشرح له آراءه في الله تعال، وكان يقصد إلى إسماع إيفانوف ما يقول وإن لم ينظر إليه. وكان شافروف يصغي باحترام وحماسة. أما إيفانوف فأولاه ظهره وجعل يقول بعد كل بيان يلقيه يوري: «لقد سمعنا هذا من قبل!»
فتدخل سانين في آخر الأمر وقال لإيفانوف: «أرجوك أن تكف عن هذا! ألا ترى أن تكريرك عبارتك هذه ممل جدًّا؟ إن لكل إنسان الحق في إبداء رأيه والحرية في اعتناقه.» ثم أشعل سيجارة وخرج إلى الفناء فخفف سكون الليل من حرارة جسمه، وكان القمر قد طلع من وراء الغابة وأراق ضوءه السلس اللين على عالم الظلام، ثم سمع وقع أقدام عارية على الحشائش، ورأى غلامًا يخرج من الظلام فسأله: «ماذا تريد؟»
فقال الغلام: «إني أبحث عن المدموازيل كرسافينا المدرسة.»
فسأله سانين: «لماذا؟» وذكر سانين منظرها وهي عارية على حافة النهر ونور الشمس يغمر جسمها فقال الغلام: «إن معي رسالة إليها.» فقال سانين: «أها! لا بد أنها هناك عند الممر لأنها ليست هنا فاذهب إلى هناك.»
فمضى الغلام وغاب في الظلام وتبعه سانين في بطء وهو ينشق النسيم الرقيق الحواشي ويكرع منه كرعًا، وسار حتى دنا من المسكن وصار الضوء المرسل من النافذة على وجهه الهادي المفكر، فلمح سينا عند النافذة واقفة في ثياب النوم وعلى كتفها المستدير الرقيق نور المصباح وكانت غارقة في خواطرها، ويظهر أنها كانت سارة إلا أن فيها ما تستحي منه، فقد كانت أجفانها تختلج وعلى شفتيها ابتسامة مرتسمة، فرأى فيها سانين ابتسامة العذراء الناضجة الملتهبة لقبلة ساحرة طويلة، فوقف جامدًا مكانه وجعل يحدق فيها.
وكانت سينا تفكر فيما مر بها في يومها وفي تجاربها التي سرتها وأثارت على هذا حياءها وخجلتها فقالت لنفسها: «يا إلهي! أَوَقد هويت إلى هذا الدرك؟» ثم ذكرت للمرة المائة ما فازت به من الغبطة، وهي بين ذراعي يوري وهمسه «واحبيبتاه!» ولحظ سانين اختلاج جفونها مرة أخرى وابتسامتها، ولم تشأ أن تفكر فيما تلا ذلك مما دفعت إليه العاطفة الجامحة. ودق الباب فسألت سينا «من الطارق؟» ورأى سانين جيدها الناصع الرقيق كأوضح ما يكون، فقال الغلام: «هذا خطاب إليك.»
ففتحت سينا الباب ودخل الغلام وقدماه تحملان طوائف شتى من الأوحال ونزع قبعته عن رأسه وقال: «قد أرسلتني سيدتي.»
ففضت سينا الرسالة وقرأت: «عزيزتي سينوتشكا! إذا استطعت فاحضري الليلة فقد جاء المفتش وسيزور مدرستنا غدًا صباحًا ولا يحسن أن تكوني غير موجودة.» فسألتها عمتها: «ماذا؟» فقالت سينا: «قد أرسلت ديبوفا في طلبي لأن المفتش حضر.» وحك الغلام قدميه وقال: «لقد أمرتني أن أرجوك أن تبادري إلى الذهاب.» فسألتها عمتها: «أذاهبة أنت؟»
أجابت: «كيف أذهب وحدي في الظلام؟»
فقال الغلام: «إن القمر في كبد السماء والليل منير.»
فقالت سينا مترددة: «لا بد لي من الذهاب.»
فقالت عمتها: «نعم نعم. اذهبي لئلا يحدث ما لا تحبين؟»
فهزت سينا رأسها وقالت: «حسن سأذهب إذن.»
ولبست ثيابها ووضعت قبعتها على رأسها وودعت عمتها والتفتت إلى الغلام وقالت: «أَوَعائد معي أنت؟» فأطرق الغلام وارتبك وحك قدميه وقال: «لقد حضرت لأبقى مع أمي الليلة وهي تغسل ثياب الرهبان هنا.»
فقالت سينا: «ولكن كيف أذهب وحدي؟»
فأجابها الغلام: «حسن جدًّا. فلنذهب معًا.»
وخرجا إلى الظلام فقالت: «ما أبدعه من منظر!»
ثم ما عتمت أن ندت عنها صرخة إذ اصطدمت بإنسان في الظلام، فقال سانين ضاحكًا: «إنه أنا.»
فمدت سينا إليه يدها المرتجفة وقالت على سبيل الاعتذار: «إن الظلام طاغٍ لا تنفذ فيه العين.» فسألها سانين: «أين تذهبين؟»
أجابت: «إلى المدينة، فقد أرسلوا في طلبي.»
قال: «وحدك؟» أجابت: «كلا! معي الغلام وهو الليلة فارسي.» فقال الغلام ضاحكًا: «فارس! هاها!»
وسألته سينا: «وماذا كنت أنت تصنع هنا؟» فقال سانين: «كنا نشرب قليلًا.» فسألته سينا: «قلت كنا فمن هم؟»
أجاب: «نعم شافروف ويوري وإيفانوف و…»
فقالت سينا: «أوه! وهل يوري معك؟» واحمر وجهها وسرت في جسمها لذكر اسمه هزة جعلتها تحس كأنها واقفة على حرف هاوية. فسألها سانين: «لماذا تسألين؟»
فقالت وزاد خجلها «لأني … قا … قابلته. والآن إلى الملتقى!» فصافح سانين اليد الممدودة إليه وقال: «إذا شئت فإني مستعد أن أحملك في زورقي إلى الشاطئ الآخر. لماذا تقطعين كل هذه الدورة على قدميك؟»
فقالت سينا: «كلا! لا تتعب نفسك من فضلك!» وقال الغلام: «دعيه بالله يفعل فإن الشاطئ كله أوحال تغوص فيه الرجل إلى الركبة.» فقالت: «حسن إذن. ولتذهب إلى أمك الآن.»
فسألها الغلام: «ألا تخافين أن تجتازي الحقول وحدك؟»
فأجاب سانين: «سأرافقها إلى البلدة.»
فسألته سينا: «ولكن ماذا عسى أن يقول إخوانك؟»
فأجابها: «هذا لا يهم! سيظلون إلى الفجر على كل حال وحسبي ما عانيته من الملل إلى الآن.»
فقالت: «إن هذه منة أحفظها لك … اذهب يا جريشكا.»
فقال سانين: «امسكي بذراعي وإلا تعثرت.»
فلفت سينا ذراعها بذراعه وخالجها إحساس غريب لما لمست عضلاته الحديدية، وهكذا مضيا في الظلام واخترقا الغابة إلى النهر، وكان الليل في الغابة أسحم طاغيًا كأنما لفت كل الأشجار في ضباب دافئ لا تنفذ العين منه. فقالت: «ما أشد الظلام!»
فهمس سانين في أذنها وكان صوته يرجف قليلًا: «هذا لا يهم إني أحب السرى في الغابات لأن المرء حينئذ يتضرعه ثوب للرياء ويعود أجرأ وأمتع.» وكانت سينا تجد صعوبة في السير، وشاع في جسمها الاضطراب لملامستها في هذه الظلمة جسم سانين القوي المتين الذي كان يجذبها أبدًا، واحمر وجهها وعاد كالجمرة المضطرمة وأعداها سانين بحرارة جسمه، فصار ضحكها متكلفًا لا ينقطع. وكان الظلام أخف عند سفح التل والقمر يريق ضوءه على صفحة الغدير والنسيم البليل يصافح خديها، وأخذت الغابة تنأى عنهما وتغيب في الظلام كأنما أسلمتها إلى النهر.
فقالت: «أين زورقك؟» أجاب: «هذا هو.»
ثم أخذا مقعدهما فيه وأكسبها القمر والتماع الماء وضاءة وروعة ودفع سانين الزورق فانطلق يفرق الماء ويعوم على ضوء القمر مخلفًا وراءه خطًّا طويلًا.
فقالت سينا وأحست فجأة قوة لا تغالب: «دعني أجدف فإني أحب ذلك.» أجاب: «إذن فاجلسي هنا.» ووقف هو في وسط الزورق. فاحتكت به وهي تنتقل إلى مكانها الجديد ولمست بأطراف أصابعها يده الممدودة إليها لمساعدتها وبدت أمامه في حسنها الرائع. وهكذا سبحا على متن الغدير. والقمر يرسل أشعته على وجهها الباهت وحاجبيها السوداوين وعينيها البراقتين، فخيل لسانين أنهما مقبلان على أرض مسحورة منعزلة عن الناس بعيدة عن منازلهم خارجة عن دائرة القانون والعقل الإنساني، وقالت سينا: «ما أجمل هذه الليلة!»
فقال بصوت خفيض: «نعم أليست كذلك!»
فانفجرت ضاحكة وقالت: «لا أدري كيف هذا ولكني أحس رغبة شديدة في أن ألقي بقبعتي في الماء وأرسل شعري.»
فقال سانين: «إذن افعلي.»
ولكنها قلقت وصمتت. وكرت خواطرها إلى ما مر بها في يومها من التجاريب، وخيل لها أن من المستحيل أن لا يكون سانين عارفًا بما جرى، فزاد هذا الظن في حدة سرورها ونازعتها نفسها أن تقول له إنها ليست دائمًا ساكنة حيية محتشمة وإنها أحيانًا تلقي عن وجهها قناع الرياء وتعود شخصًا آخر مختلفًا جدًّا.
وسألته بصوت مضطرب: «هل عرفت يوري منذ زمن طويل؟» فأجاب: «كلا! لماذا تسألين؟»
قالت: «مجرد سؤال. ألا تظنه ذكيًّا؟»
وكانت في صوتها نبرة حياء صبياني كأنما كانت تريد أن تنتزع شيئًا ممن هو أسن منها ومن له أن يلاطفها أو يعاقبها.
فابتسم سانين لها وهو يقول: «نعم!» وعلمت سينا من صوته أنه يبتسم فزاد حياؤها وقالت: «إنه حقيقة ذكي … ولكنه شقي على ما يظهر!» فأجابها سانين: «ربما كان الأمر كما تصفين. فأما شقاؤه فلا شك فيه. وهل أنت آسفة له؟»
فقالت سينا بدلال متكلف: «نعم بلا شك.»
فقال سانين: «هذا طبيعي ولكن للشقاء معنى عندك غير معناه الحقيقي. إنك تظنين أن الرجل الساخط الذي لا ينفك يحلل ويشرح حالته النفسية وأعماله — مثل هذا الرجل — تظنينه لا شقيًّا مسكينًا بل تحسبينه قوة وشخصية نادرة فذة، لأنك تتوهمين أن هذا التحليل المستمر من شأنه أن يخول المرء أن يظن نفسه أرقى من سواه وأحق بالعطف والحب والإجلال.»
فسألته سينا: «حسن ولكن ماذا هو إذا لم يكن كذلك؟»
ولم تكن قد كلمت سانين طويلًا من قبل، وكانت تسمع أنه فذ فريد في بابه، فوجدت لذة في ملاقاة مثل هذه الشخصية الجديدة الممتعة وضحك سانين وقال: «مضى زمن كان الإنسان فيه يعيش عيشة الوحش ولا يحمل نفسه تبعة أعماله أو إحساساته، ثم تلا ذلك عهد الحياة المحسة المدركة، فبالغ الإنسان في مفتتحها في تقدير عواطفه وحاجاته ورغباته. وهنا عند هذا الطور — يقف يوري فهو آخر «الموهيكان» — آخر من يمثل عصرًا من النشوء الإنساني مضى وانقضى ولا سبيل إلى عوده. وكأنه قد أشرب خلاصة ذلك العصر فتسممت روحه، فهو لا يحيا حياته في الحقيقة. يسائل نفسه عن كل عمل وكل فكرة «هل أحسنت؟ هل أساءت؟» وهذا غاية السخف. وهو في السياسة لا يدري هل يليق بكرامته أن يقف في صف مع الآخرين أم لا يليق، وإذا نفض يده من الاشتغال بالسياسة عاد يعجب لنفسه أليس اعتزاله إياها مهانة له وأمثاله كثر، وإذا كان يوري شاذًّا فذلك راجع إلى أنه أذكى.»
فقالت سينا بحذر: «لم أفهم مرادك تمامًا. إنك تتكلم عن يوري كأنه هو الملوم عن كونه كذلك. وإذا كانت الحياة عاجزة عن إرضاء رجل فهذا الرجل لا بد أن يكون فوق الحياة.»
فأجابها سانين: «إن الإنسان لا يمكن أن يكون فوق الحياة لأنه ليس إلا جزءًا منها. وقد يسخط ولكن مرجع السخط إلى نفسه. فهو إما لا يستطيع أو لا يجرؤ على أن يأخذ من كنوز الحياة ما يسد حاجته. ومن الناس من يقضون حياتهم في السجون وهناك غيرهم آخرون يخافون أن يفروا منها كالطائر الأسير يفرق من الطيران إذ يطلق له. والجسم والروح معًا يكونان كلًّا متجاوبًا لا يزعجه إلا دنو الموت الرهيب، ولكننا نحن الذين نقضي على هذا التلاؤم بسوء فكرتنا عن الحياة. فقد زعمنا أن رغباتنا الطبيعية حيوانية وصرنا نحس العار والخجل منها ونخفيها في صور وضيعة. والضعاف منا لا يفطنون لهذا بل يقطعون حياتهم في الأغلال المضروبة عليهم. أما الضحايا فأولئك الذين تقعد بهم آراؤهم المقلوبة. ولا شك أن القوى المحبوسة تتطلب منفذًا، وأن الجسم ينشد السرور واللذة وأنه يتعذب من جراء عجزه وقصوره. فهؤلاء وأمثالهم حياتهم صراع دائم وشك مستمر يتعلقون بكل ما يقدرون أن يعينهم ويقضي بهم إلى نظرية أخلاقية أحدث وأجد، ولا يزالون كذلك حتى يعودوا وهم يخافون أن يعيشوا وأن يحسوا.» فقالت سينا مبتهجة: «نعم نعم.» وغزت رأسها كتائب من الخواطر الجديدة، وتلفتت حولها وعينها تضيء وتغلغل إلى أعماق نفسها جمال الليل وحسن الغدير الساكن والغابات الحالمة، وعاودها الشوق إلى تجربة القوة التي تؤتيها السرور.
ومضى سانين في كلامه فقال: «إني أبدًا أحلم بعصر ذهبي لا يحول فيه شيء بين الإنسان وسعادته فيباشر كل ما يستطيع من المتع في جرأة وحرية.» فسألته سينا: «ولكن كيف يصنع ذلك؟ أبالرجوع إلى الهمجية؟» قال: «كلا! إن العصر الذي كان فيه الإنسان وحشًا كان عصرًا منحوسًا. وعصرنا الحاضر الذي يتحكم فيه العقل في الجسم ويخفيه عصر تنقصه الهمة والرشد. ولكن الإنسان لم يعش عبثًا فقد خلقت له حياته حالات جديدة لا تدع مجالات لخشونة الهمجية ولا للرهبانية.»
فسألته: «وماذا عن الحب؟ ألا يفرض علينا قيودًا؟»
فقال: «كلا! إن الحب إذا كان يفرض قيودًا مؤلمة فذلك من جراء الغيرة. والغيرة نتيجة العبودية. والرق في أي صورة ضار وينبغي للناس أن يستمتعوا ما يتيح لهم الحب بلا خوف ولا قيد، فإذا فعلوا عاد الحب أمتع وأحفل في كل صورة وأكثر تأثرًا بالمصادفات والفرص.» فقالت لنفسها: «لم يخالجني أي خوف في هذه اللحظة.» ثم نظرت فجأة إلى سانين نظرة من يراه لأول مرة وكان جالسًا أمامها أزرق العينين عريض الكتفين يشوق الناظر إليه ويروق فقالت لنفسها: «ما أجمله!»
وبدا لعينها عالم بأسره من القوى والعواطف فهل تدخله؟ فابتسمت لهذا الخاطر وهي ترتجف ولا بد أن يكون سانين قد أدرك ما يجول في خاطرها فقد أسرعت أنفاسه وعاد وكأنه يلهث. ومر الزورق بنقطة يضيق فيها مجرى النهر فالتصق المجدافان بالأعشاب وأفلتا من كفيها فقالت: «لا أستطيع أن أجدف هنا إن المجرى ضيق.» وكان صوتها رقيقًا منغمًا كخرير الماء. فوقف سانين وسار إليها فسألته وهي فزعة: «ماذا؟» فقال: «لا شيء إني أريد …»
فوقفت مثله وحاولت أن تصل إلى الدفة واضطرب الزورق اضطرابًا عنيفًا ففقدت توازنها ومالت إلى سانين وأمسكت به ووقعت بين ذراعيه. وفي هذه اللحظة — وبدون أن يجري في خاطرها أن هذا ممكن — أطالت التصاقها به، فاندلعت النار في دماء سانين وخرجت من بين شفتيه آهة دهشة وسرور واحتضنها وردها إلى الوراء حتى سقطت قبعتها وزاد اضطراب الزورق فصاحت به: «ماذا تصنع؟ دعني بالله! ماذا تصنع؟» وكان صوتها ضعيفًا خافتًا. وحاولت أن تتخلص من ذراعيه الحديديتين ولكن سانين ضم صدرها إليه ضمًّا أزال ما كان بينهما من الحواجز.
ولم يكن حولهما إلا الظلام، وإلا رائحة النهر والأعشاب البليلة، وجو يسخن تارة ويبرد أخرى وسكون عميق، ثم فقدت فجأة وهي لا تدري كل إرادة لها أو فكر فتراخت أعضاؤها وأسلمت نفسها لإرادة غيرها.