الفصل الخامس والثلاثون
أفاقت سينا أخيرًا فأبصرت صورة القمر الوضاء مرتسمة على صفحة الماء ووجه سانين مكبًّا عليها بعينيه اللامعتين، وأحست أن ذراعيه حول خاصرتها وأن أحد المجدافين يحك ركبتها.
ثم طفقت تبكي بكاءًا رقيقًا ملحًا دون أن تحاول التخلص من عناق سانين، وكان بكاؤها على ذلك الذي لا يرد ودموعها دموع الخوف والمرثية لنفسها والحب له. فرفعها سانين ووضعها على ركبته وهي مستسلمة له كالطفل، وكانت تسمعه يرفه عنها بلهجة الوامق الشاكر وكأنها تحلم فقالت لنفسها: «سأغرق نفسي.» وكأنما كان هذا الخاطر جوابًا على سؤال شخص ثالث يقول لها: «ماذا صنعت؟ وماذا تنوين أن تصنعي الآن؟»
ثم سألت سانين بصوت عال: «ماذا أصنع الآن؟» فأجابها سانين: «سنرى» فحاولت أن تنهض عن ركبته، ولكنه أمسك بها فبقيت في مكانها وهي تعجب كيف لا تشعر له بمقت أو اشمئزاز، وحدثت نفسها إن لم يعد يعنيها ما عسى أن يحدث وخالجها شعور خفي بالعجب لهذا الرجل الأجنبي الحبيب ماذا ينوي أن يصنع بها.
وبعد برهة تناول سانين المجدافين واستلقت هي إلى جانبه وعيناها مغمضتان وجسمها يضطرب كلما لامست يده صدرها وهو يجدف، ولما بلغ الزورق الشاطئ فتحت عينيها فأبصرت الحقول والماء والضباب والقمر باهتًا كالشبح يهم بالفرار من الفجر، وكان الفجر قد تنفس وهب النسيم باردًا فسألها سانين: «هل أذهب معك؟» فقالت: «كلا! إني أفضل أن أمضي وحدي.» فحملها سانين وسره أن يحملها، فقد كان يحس أنه يحبها وأنه مدين لها بالشكر ووضعها على الشاطئ بعد أن ضمها وقال: «يا لك من حسناء!» فابتسمت ابتسامة الزهو. وتناول سانين يديها وجذبها إليه وقال: «قبليني» فقالت لنفسها وهي تطبع على فمه قبلة حارة طويلة: «لا يهم الآن! إن كل شيء لا يهم!» وهمست في أذنه: «إلى الملتقى.» وهي لا تكاد تدري ما تقول فناشدها سانين: «لا تغضبي عليّ يا فتاتي!» وجعل يراقبها وهي تصعد الشاطئ مترنحة متطرحة وهو يرثي لها وأحزنه ما هو مذخور لها من الآلام التي لا ضرورة إليها والتي لا قبل لها باحتمالها، وكانت تسير في بطء إلى مطلع الفجر ولم تلبث أن لفها الضباب في شملته البيضاء.
ولما خفيت عن عينه وثب سانين إلى الزورق وجلد المساء بمجدافيه فأرغاه، واندفع به الزورق حتى توسط النهر، وكان ضباب الفجر قد غشي ما حوله فترك المجدافين ووقف في وسط الزورق وأطلق صيحة فرح عالية، فتجاوبت بصيحته الغابات والضباب كأنما كانت حية مثله.