الفصل السادس والثلاثون
نامت سينا كأن ضربة أصابتها، ولكنها بكرت في القيام وكانت مهدودة القوى باردة الجسم كالجثة. ولم ينم يأسها لحظة ولم تستطع أن تنسى ما حدث، فجعلت وهي حزينة صامتة تفحص ما في الغرفة كأنما تريد أن ترى هل لحق شيئًا تغيير، ولكن كل شيء كان على العهد به، وكانت ديبوفا على السرير الثاني مستغرقة في نومها، وليس غير الثوب الملقى على كرسي بدون احتفال يقص عليها قصتها. وزاد وجهها اصفرارًا وأحضرت لذهنها كل ما مر بها ثم نهضت ولبست ثيابها وجلست إلى النافذة تنظر إلى الحديقة، وكان رأسها يموج بالخواطر المضطربة المبهمة كالدخان إذ تعبث به الريح. ثم استيقظت ديبوفا فجأة وقالت: «ماذا؟ أَوَقد قمت؟ ما أعجب هذا؟»
وكانت لما حضرت سينا صباحًا قد سألتها والنوم يغالبها: «وكيف استطعت أن تحضري في هذه الليلة؟» ثم نامت ولم تنتظر الجواب، ولكنها لما تبينت الآن أن في الأمر شيئًا أسرعت حافية وسألتها: «ما الخبر؟ أمريضة أنت؟» فقالت سينا وعلى شفتيها الورديتين ابتسامة: «لالا! ولكني لم أذق النوم.»
وهكذا نطقت بأول أكذوبة أحالت عذريتها الصريحة المزهوة ذكرى وجعلت تنظر إلى ديبوفا وهي تلبس ثيابها فبدت لها نقية وضاءة، ورأت نفسها بغيضة كالأفعى، وبلغ من ذلك أن خيل لها أن الجانب الذي كانت ديبوفا واقفة فيه مشمس ضاح على حين بدا لها ركنها مغمورًا بالظلام. ولكن ذلك كله كان مكتومًا ولم يكن ظاهرها الطاهر ينم على شيء، ثم لبست حلتها وقبعتها وتناولت مظلتها وذهبت إلى المدرسة جذلة على عادتها، وبقيت ثم إلى الظهر ثم عادت وقابلت في الطريق ليدا، فوقفتا تتحدثان عن أمور تافهة كثيرة، وكانت ليدا تمقت سينا لظنها أنها سعيدة حرة فارغة القلب من الهموم، على حين كانت سينا تنفس على ليدا حياتها السلسلة الممتعة، وكانت كل منهما تعتقد أنها ذاهبة ضحية الظلم وتقول لنفسها: «إني ولا شك خير منها فلماذا تسعد وأشقى؟»
وتناولت سينا بعد الغداء كتابًا وجلست قرب النافذة تقرأ، وكانت ساعة الانفعال قد انقضت فصارت الآن لا تحفل بشيء وجعلت تردد من حين إلى حين: «آه! لقد قضي الأمر. وخير لي أن أموت.» ورأت سانين قبل أن يراها، وكان سائر صوبها يخترق الحديقة وينحي عنه الأغصان المتهدلة كأنما تريد أن تحييه بلمسها فاضطجعت في كرسيها وجعلت ترقبه بعينين شاردتين.
وقال ومد إليها يده: «عمي صباحًا.» وقبل أن تستطيع أن تنهض أو تفيق من دهشتها حياها مرة أخرى بصوت رقيق فتمتمت: «عم صباحًا.» فمال إلى النافذة واتكأ عليها وقال: «تعالي إلى الحديقة برهة نتحدث.» فنهضت تدفعها قوة سلبتها إرادتها وقال سانين: «سأنتظرك هناك.» فلم تزد على أن هزت رأسها.
وكانت سينا تشفق من النظر إليه وهو يتراجع إلى الحديقة، فظلت بضع ثوان جامدة في مكانها ويداها متصافقتان ثم خرجت، وكان سانين واقفًا ينتظرها في بعض جهات الحديقة فأقلقتها ابتسامته، فتناول كفها وجلس على جذع شجرة وجذبها برفق إلى حجره وقال: «لست واثقًا من أنه كان يليق بي أن أحضر لأني أخشى أن تظني أني أسأت إليك، ولكني لم أستطع البقاء بعيدًا عنك وأريد أن أشرح لك بعض الأمور حتى لا تذهبي إلى مقتي وكرهي. وبعد … فماذا كنت أستطيع أن أفعل غير ما فعلت؟ كيف كان يسعني أن أقاوم؟ لقد مرت بي لحظة شعرت فيها أن كل حاجز بيننا تداعى وأني إذا أفلتتني هذه اللحظة فلن تعود وأنت رائعة الجمال وضيئة الشباب …» وكانت سينا صامتة وأذنها الرقيقة الشفافة يغطيها شعرها إلا أقلها فاحمرت واختلجت أهداب أجفانها فقال سانين: «إنك شقية الآن. أما البارحة فما كان أجمل كل شيء! وإنما تنشأ الأحزان لأن الإنسان فرض ثمنًا لسعادته، ولو أن أسلوب حياتنا كان مختلفًا لبقيت ليلتنا هذه في ذاكرتينا أنفس ما جربناه وأجمل ما استمتعنا به.» فقالت: «نعم لو أن …» ثم ابتسمت فجأة فأنعشتها ابتسامتها التي لم تكن مقدرة ولكن ذلك لم يطل إلا برهة. ثم تراءت لها حياتها المستقبلية تكتنفها الأحزان والعار فأثارت في نفسها هذه الصورة الحقد والمقت وقالت بحدة: «اذهب عني! دعني!» وصرت أسنانها وتصلب وجهها ونطق بالبغض وهي تنهض.
فرق لها قلب سانين ونازعته نفسه هنيهة أن يعرض عليها اسمه وحمايته ولكن شيئًا صده وصرفه، وأحس أن مثل هذا الإصلاح لما أفسد أحط وأسفل من أن يعالج. ثم قال: «إني أعلم أنك تحبين يوري فلعل هذا ما يكربك؟» فتمتمت سينا وشدت كفًّا على كف: «لست بعاشقةِ أحدٍ.» فقال سانين مستعطفًا: «لا تحملي لي ضغنا إنك كما كنت جمالًا وحسنًا وقدرة على إيتاء يوري ما أوليتني إياه من السعادة، وإني لأتمنى لك من أعماق قلبي كل غبطة ميسورة ونعمة ممكنة، وسأتمثلك دائمًا كما رأيتك البارحة. فالوداع وابعثي في طلبي إذا إحتجت إلي. واعلمي أن حياتي مبذولة لك إذا أردت.» فنظرت إليه سينا وهي صامتة وأحست عطفًا عجيبًا وقالت لنفسها: «من يدري؟ ربما استقامت الأمور.» وتجرد المستقبل من البشاعة في نظرها ووقف الاثنان وجها لوجه وهما يعلمان أن في صدريهما سرًّا لا سبيل لأحد إليه، وأن ذكراه ستبقى على الأيام سارة. وقالت سينا: «إلى الملتقى.» بصوت رقيق عذب، فأضاء السرور وجه سانين ومدت إليه كفها فقبلها وقبلته قبلة الأخوين ورافقته إلى بوابة الحديقة، ثم وقفت وجعلت تراقبه آسفة وهو يمضي عنها، ثم كرت راجعة إلى الحديقة واستلقت على النجائل وأغمضت عينيها وفكرت فيما وقع وتساءلت: أينبغي لها أن تطلع يوري عليه أم تكتمه. وقالت: «كلا! لن أفكر في هذه مرة أخرى، ويحسن أن ننسى بعض الأمور.»