الفصل الثامن والثلاثون
آسف كل امرئ على يوري سواء في ذلك من أحبوه ومن أبغضوه ومن احتقروه ومن لم يفكروا فيه. ولم يفهم أحد منهم باعثه على الانتحار، وإن كانو يظنون أنهم يعلمون أن في أعماق نفوسهم بعض ما خامر نفسه. ولم يشيعه من أهله أحد لأن أباه كان قد أصيب بالفالج، ولم يسع أخته لياليا أن تتركه فناب ريزانتزيف عن الأسرة، وتولى الإشراف على الجنازة والدفن، وكان لهذا وقع محزن في نفوس المشيعين، وغمر النعش بورود الخريف الجميلة ووسد يوري بين بيضائها وحمرائها هادئًا ساكنًا ليس على وجهه أقل أثر للعراك أو الألم.
ولما مرت الجنازة ببيت سينا لحقت بها هي وديبوفا، وكانت سينا مكسورة القلب مضطربة كأنما يسوقها سائق إلى إعلان فضيحتها، وكانت على يقين من أن يوري لم يسمع بما أصاب عفافها ولكنها على هذا رأت علاقة بين هذا وموته، وكانت قد قضت الليل في البكاء وفي تقبيل وجه حبيبها المرتسم في خيالها، وطلع الصبح فاكتظ قلبها بحبه ومقت سانين، واستفظعت كل ما قاله لها سانين، وكانت قد آمنت به، فلما دنا منها وهي سائرة في الجنازة نظرت إليه نظرة فزع واستبشاع وانصرفت عنه، وأدرك سانين لما سلم عليها كل ما تحسه وتفكر فيه، وعلم أنهما بعد اليوم غريبان فعض شفته وانضم إلى إيفانوف وقال له: «اسمع! إن يبتر الليتش سيموت ترتيلًا!» فقال إيفانوف: «ما أغرب هذا الضعف! يقتل نفسه في لحظة!» فأجابه سانين: «إن اعتقادي أنه قبل أن يطلق مسدسه بثلاث دقائق لم يكن يدري أينتحر أم يحيا. لقد مات كما عاش.» فقال إيفانوف: «إنه على كل حال قد وجد لنفسه مكانًا.» وتلقت الأرض يورى في هذه اللحظة. وحين كاد النعش يخفى عن النظر وتفصل الأرض إلى الأبد بين من عليها ومن تحتها صرخت سينا، فتجاوبت المقبرة بصرختها وعويلها ولم يعد يهمها أن تكتم سرها فمضوا بها عن القبر، وهيل التراب وسوي ورفعت عليه بعض الصوي. وقلق شافروف وقال: «أليس من يرثيه؟ أيها السادة إن هذا لا يليق! لا بد من تأبينه.»
فقال إيفانوف مقترحًا بخبث: «اطلب من سانين ذلك.»
فقال شافروف: «سانين؟ وأين هو؟ آه فلاديمير سانين هل تتفضل بإلقاء كلمتين؟ إننا لا نستطيع أن نمضي دون أن نرثيه.»
فقال سانين بجفوة: «إذن فارثه أنت.» وكان يصغي إلى سينا هي تبكي بعيدًا عنهم فقال شافروف: «لو استطعت لفعلت إنه كان حقيقة رجلًا نادرًا، أليس كذلك؟ قل من فضلك كلمة!» فنظر سانين إليه شزرًا وقال بلهجة المغضب: «ماذا عسى أن أقول؟ لقد نقصت الدنيا مجنونًا. هذا كل ما في الأمر.» فوقعت هذه الكلمات أوضح ما تكون على مسامع الحاضرين وبلغ من ذهولهم أن لم يجدوا جوابًا، ولكن ديبوفا صاحت بصوت عالٍ: «يا للفضيحة!» فسألها سانين وهز كتفيه: «لماذا؟» فهمت ديبوفا بأن تصيح في وجهه وأن تهدد بقبضة يدها، ولكن رفيقاتها منعنها وتفرق الجمع بغير نظام، وكانت عبارات الاحتجاج تخرج من كل فم، وتشتت المشيعون كالأوراق الذاوية عصفت بها الريح، وجرى شافروف ثم ارتد ووقف ريازنتزيف مع بعضهم يومئ إيماءات عنيفة. وكان سانين غارقًا في خواطره يحدق في وجه رجل على عينه نظارة ثم التفت إلى إيفانوف، وكان مرتبكًا ولم يكن يقدر حين أحال شافروف عليه أن يكون هذا رده فأسف، وكان إلى جانبه شاب يتكلم بحرارة فسمره إيفانوف بنظرة وقال له: «يظهر أنك تظن أنك حلية وزينة.» فخجل الشاب وقال: «ليس في هذا ما يضحك.» فصاح به إيفانوف: «لعنك الله اذهب عني!» وكانت نظرته من العنف بحيث لم يسع الشاب إلا المضي وكان سانين يراقب ذلك فابتسم وقال: «ما أحمقهم جميعًا!»
فقال إيفانوف: «هيا بنا! إلى الشيطان بهم.»
ومرا في طريقهما بريازانتزيف، ورأى سانين زمرة من الشبان لا يعرفهم واقفين ورأس كل منهم إلى رأس صاحبة، وفي وسطهم شافروف يتكلم ويومئ، فلما دنا منهم سانين سكت والتفتوا جميعًا لينظروا إلى سانين وفي وجوههم أمارات السخط والغضب والاستغراب، فقال إيفانوف: «إنهم يأتمرون بك.» واستغرب نظرة سانين الحزينة وتقدم شافروف ودنا من سانين فالتفت هذا إليه بحدة كأنما يتهيأ لأن ينفض به الأرض. ويظهر أن شافروف أدرك ذلك فقد اصفر ووقف على بعد وحف به الطلبة والفتيات كالأغنام وسأله سانين: «ماذا تريد غير ذلك؟» فقال شافروف وهو مرتبك: «إننا لا نريد شيئًا ولكن كل زملائي يريدون أن أعرب عن سخطهم …» فقال سانين وأسنانه مطبقة: «ما أعظم اهتمامي بسخطكم! لقد سألتني أن أقول كلمة عن الميت فلما صارحتكم برأيي جئت تعرب لي عن سخطك. وهذا حسن منك. ولولا أنكم زمرة من الصبيان الحمقى الممرورين لأثبت لكم أني مصيب وأن حياة يوري كانت حياة سخيفة لأنه قضاها في التساؤل عن كل ما لا يجدي ثم مات ميتة الحمقى، ألا إنكم جميعا لأكثف ذهنًا وأضيق عقلًا من أن تستحقوا الكلام. فإلى الشيطان بكم جميعًا اذهبوا عني!.» ولم يقلها حتى انطلق يشق لنفسه طريقًا بينهم فقال شافروف: «لا تدفعني من فضلك.» وصاح بعضهم: «لم أر أوقح …» ولم يتم عبارته. وسأله إيفانوف: «ما الذي يخيف الناس منك! إنك تفزعهم أشد الفزع!»
فقال سانين: «لو ضايقك هؤلاء الشبان بآرائهم الخرقاء في الحرية لعاملتهم بأحسن من معاملتي لهم فليذهبوا جميعًا إلى الجحيم.»
فقال إيفانوف: «دعنا من هذا يا صديقي. هل تدري ماذا يجب أن نصنع؟ نشتري شيئًا من الجعة ونشربها على ذكرى يوري.»
فقال سانين بدون اكتراث: «إذا شئت.»
ومضى إيفانوف في تفصيل اقتراحه فقال: «لن يكون هناك أحد حين نعود. فلنشرب الجعة بجانب القبر وللفقيد احترامنا ولأنفسنا المتعة.» فقال: «حسن جدًّا.» ولم يكن على القبر أحد حين عادا فجلسا، وما كادا يفعلان حتى خرج من التراب ثعبان أسود فظيع فصاح إيفانوف وهو يرعش: «ثعبان» ثم شربا وألقيا بالزجاجات الفارغة على الحشائش المغروسة على القبر الجديد.