الفصل التاسع والثلاثون
قال سانين لإيفانوف وهما يجتازان الشارع في المساء: «اسمع»! قال: «ماذا؟» قال: «تعال معي إلى المحطة فإني مزمع رحيلًا.» فوقف إيفانوف وسأله عن السبب فقال سانين: «لأني مللت هذا المكان.» فقال إيفانوف: «أترى أخافك شيء؟» أجاب: «أخافني أني راحل لأني أريد ذلك.» قال: «نعم ولكن ما السبب؟»
أجاب: «يا صديقي لا تسأل عن هذه الأسئلة السخيفة. إني راحل وكفى وما دام المرء لم يستبطن الناس فقد يبقى له أمل فيهم. ولكن تأمل بعض من نعايشهم هنا: خذ مثلًا سينا أو سمينوف أو ليدا نفسها التي كان يمكنها أن لا تكون عامية النفس أوه! إنهم يضجرونني الآن وقد مللتهم وأضنتني معاشرتهم وطال صبري عليهم واحتمالي لهم ولم تعد لي طاقة على ذلك.»
فحدق إيفانوف في وجهه قليلًا وقال: «تعال! إنك لا شك ستودع أهلك؟» قال سانين: «كلا! لست من يفعل ذلك فإنهم هم الذين أملوني.» أجاب: «ولكن أين أمتعتك؟»
قال: «ليس عندي شيء كثير. وإذا انتظرتني في الحديقة ذهبت إلى غرفتي وألقيت إليك بالحقيبة من النافذة حتى لا يكثروا من السؤال عن الأسباب والدواعي، وعلى أي سبب هناك ما أقوله لهم؟»
فقال إيفانوف «حسن. وإني لآسف جدًّا لسفرك يا صديقي ولكن … ماذا أستطيع أن أصنع لك؟» أجاب: «تعال معي.»
فقال «أين؟» أجاب: «إن المكان لا يهم وفي وسعنا أن نفكر في هذا فيما بعد.» فقال: «ليس معي مال.» فضحك سانين وقال: «ولا أنا» أجاب: «كلا! إذن فاذهب وحدك وستبدأ الدراسة بعد أسبوعين فأعود إلى المجرى القديم.» ونظر كل منهما إلى صاحبه ثم صرف إيفانوف وجهه وهو مرتبك كأنما كان رأى صورة مشوهة لوجهه في مرآة. واجتاز فناء البيت ودخل سانين من الباب وانتظر صاحبه في الحديقة المظلمة تحت النافذة.
أما سانين فإنه لما مر بغرفة الاستقبال سمع أصواتا آتية من الشرفة فأصغى فإذا ليدا تقول: «ولكن ماذا تريد مني؟»
فقال نوفيكوف: «لا أريد شيئًا. ولكن يخيل لي أنه من الغريب أن تظني أنك ضحيت بنفسك يا ليدا من أجلي على حين أني أنا …» فقالت ليدا بصوت متهدج: «نعم نعم. أعلم ذلك وأعلم أنك أنت الذي يضحي بنفسه لا أنا. فماذا تريد أكثر من ذلك؟»
فتضايق نوفيكوف وقال: «ما أقل فهمك لما أعنى! إني أحبك فليس في الأمر تضحية، ولكن إذا كنت تظنين أن في زواجنا تضحية بك أو بي فكيف نستطيع أن نتعايش؟ أرجوك أن تفهمي. إننا لا نستطيع الحياة معًا إلا على شرط واحد، وهو أن لا يجري في وهم أحد منا أن في الأمر تضحية ما. وأما أن نكون متحابين حينئذ يكون زواجنا معقولًا وطبيعيًّا، وإما أن لا نكون متحابين وحينئذ …» فشرعت ليدا تبكي فجأة، فصاح نوفيكوف: «ماذا دهاك؟ إني لا أفهمك. لم أقل شيئًا يسيئك لا تبكي. الحق أن المرء لا يستطيع أن ينطق كلمة واحدة.»
فقالت ليدا وهي تبكي: «لا أدري … ولكن …»
فقطب سانين أساريه ودخل غرفته وقال لنفسه: «وهذا كل ما وصلا إليه؟ لعله كان خيرًا أن تغرق نفسها!»
وكان إيفانوف منتظرًا تحت النافذة يسمع حركة سانين وهو يجمع أمتعته فقال: «أسرع» فقال سانين ودلى إليه الحقيبة: «خذ» ولما تناولها وثب سانين وراءها وقال: «هيا بنا.»
وأسرعا فاجتازا الحديقة وكانت الشمس قد انحدرت، ولما بلغا محطة السكة الحديدية ألفيا المصابيح مضاءة ووجد قاطرة تنفخ والناس يعدون ذات اليمين وذات الشمال وبصر بزمرة من الفلاحين يشغلون جانبًا من الإفريز بأشخاصهم وحزمهم الكبيرة.
وشرب سانين وإيفانوف كأسي وداع وقال إيفانوف: «رحلة سعيدة إن شاء الله.» فابتسم سانين وقال: «إن كل رحلاتي سواء لست أنتظر من الحياة شيئًا أو أسألها شيئًا. أما من حيث الحظ والسعادة فلن يبقى من ذلك كثير حتى شارفتنا النهاية — الهرم والموت — يكاد يكون هذان كل ما دخر لنا.» ثم خرجا إلى الإفريز وانتحيا منه ناحية خالية ساكنة وقال إيفانوف: «الوداع مع السلامة!» أجاب: «الوداع!» وتلاثما وهما لا يدريان الدافع لهما وصفرت القاطرة وبدأت تتحرك فقال إيفانوف: «يا صديقي لقد أصبحت كلفًا بك. إنك للرجل الوحيد الذي صادفته في حياتي.» فقال سانين وهو يبتسم: «وأنت الرجل الوحيد الذي اهتم بي.» ووثب إلى إحدى المركبات وهي مارة به وصاح: «هكذا أرحل فالوداع.» وأسرعت المركبات أمام إيفانوف كأنها قررت أن ترحل مثل سانين، وبدا من آخرها الضوء الأحمر في ظلام الليل، ولما نأى خيل لرائيه أنه جامد في مكانه. وظل إيفانوف يرقبه برهة وبنفسه حسرة ثم كر إلى الشوارع المضاءة وقال لنفسه: «أأغرق همي؟» ثم دخل حانة ودخلت معه صورة حياته الشوهاء المملة وكالشبح.