الفصل الأربعون
كانت المصابيح فاترة الضوء في جو القطار الخافق وجلس سانين بجانب ثلاثة من الفلاحين وكانوا يتحدثون ساعة دخل عليهم وأحدهم يقول: «إن الأحوال سيئة.» فقال ثانيهم وكان جار سانين: «لا يمكن أن تكون أسوأ إنهم لا يفكرون إلا في أنفسهم أما نحن فلا يكترثون لنا أو يعبئون بنا، قل ما بدا لك، متى وصل الأمر إلى الدفاع عن النفس فالساعة للأقوى.»
فسألهم سانين: «إذن فما فائدة هذه الضجة؟» وكان قد حذر موضوع الكلام فالتفت إليه أكبرهم سنًّا ولوح بيده، وقال: «ماذا نصنع غير ذلك؟»
فنهض سانين وغير مكانه وكان خبيرًا بهؤلاء الفلاحين الذين يعيشون كالدواب، ولا يستطيعون أن يدفعوا الظلم أو يقضوا على الظالم ويعلقون أملهم بمعجزة يموت في انتظارها الملايين منهم.
وكان الليل قد بسط رواقه ونام كل امرئ ما عدا تاجر قبالة سانين كان معه امرأة صغيرة لم تقل شيئًا ولكن عينها كانت فزعة، وكان الرجل ينظر إليها شزرًا ويقول: «أيتها البقرة! سأريك!»
ونام سانين فترة من الليل حتى أيقظته صرخة من المرأة فنحى زوجها يده عنها ولكن سانين أدرك أنه كان يضربها فصاح به: «يا لك من وحش!!»
فتراجع الرجل وهو فزع وخرج سانين إلى مؤخرة القطار، ورأى في طريقه إليها كثيرين من الفلاحين رءوس بعضهم على أجسام البعض، وكان الفجر قد أوشك أن يطلع فوقف سانين ينشق نسيم الصباح العليل وقال: «ما أحقر الإنسان!» ونازعته نفسه أن يعتزل الناس ولو برهة قصيرة وأن يترك القطار وجَوّه الملوث ودخانه وضجته. ولج به الشوق إلى الخلاص من كل ذلك.
وكان الأفق في الشرق قد احمر وغابت ظلال الليل في زرقة الأفق. فلم يضيع سانين الوقت في التفكير بل ترك حقيبته ووثب من القطار على الأرض.
ومر به القطار بمثل صوت مرعد وهو ملقى على الرمال البليلة اللينة، فلما نهض كان المصباح الأحمر قد بعد عنه فأخرج سانين صيحة فرح وقال: «هذا حسن.»
وكان كل ما حوله طليقًا شاسعًا والحقول والمزارع منبسطة على الجانبين إلى الأفق، فتنفس سانين نفسًا عميقًا ورمى هذا المنظر بعينين وضاءتين ثم سار ووجهه إلى الفجر اللامع، وخيل لسانين وهو يري السهول تستيقظ وتكتسي حلتها البيضاء تحت قبة السماء وأشعة الشمس تنطلق كالسهام النارية التي يطلقونها في ليالي الأفراح.
خيل إليه أنه سائر إلى لقاء سعيد في جنة فيحاء.