مَوت معالي الوزير سَابقًا
ضعي يدكِ على رأسي يا أمي، وربِّتي برقتك على شعري وعنقي وصدري كما كنتِ تفعلين معي وأنا طفل، فأنتِ الوحيدة الباقية لي، ووجهك هو الوحيد من وجوه العالم الذي أراه أو أريد أن أراه في هذه اللحظات الأخيرة، وكم كنت أود أن تعاتبيني يا أمي؛ لأني لم أرَكِ منذ خمس سنوات، ولكني لم أنشغل عنكِ أنتِ فحسب، فقد انشغلت عن العالم كله حتى نفسي، حتى بيتي وزوجتي وأصدقائي، حتى لعبة الجولف — التي كنت أهواها — لم أمارسها طوال هذه السَّنوات الخمس مرة واحدة، حتى ابنتي الوحيدة الصَّغيرة التي كنت أحبها لم أكن أراها، حتى وجهي يا أمي، وجهي لم أكن أراه، وكنت وأنا مسرع إلى الخارج أُلْقِي نظرةً سريعة في المرآة؛ لا لأرى وجهي وإنما لأُحْكِمَ ربطة العنق حول عنقي، أو لأتأكد من أن لون الثوب لا يتعارض مع لون الربطة، بل إنني حتى وإن نظرت إلى وجهي في المرآة فأنا لا أراه، وإذا نظرت إلى وجوه الناس في المكتب أو في الشارع من خلال زجاج سيارتي فأنا لا أراهم، وإذا حدثوني فأنا لا أسمعهم وإن تكلموا بصوت عالٍ، بل إن أعلى بوق في أي سيارة ما كنت لأسمعه وإن كان خلفي مباشرة، وكم مرة كانت تدهمني سيارة حتى كففت عن السير على قدمي.
كنت — يا أمي — كالذي لا يرى ولا يسمع ولا يعيش في هذا العالم. في أي عالم كنت أعيش، وهل هناك عالم آخر غير عالم الناس يمكن للإنسان أن يعيش فيه دون أن يكون قد توفاه الله؟ وكنت أدرك — يا أمي — أنَّ الله لم يتوفَّني بعدُ بدليل أنني لم أقرأ نعيي في صفحة الوفَيَات، ولا يمكن لرجل في مثل منصبي أن يموت هكذا دون أن يُنشر نعيه كبيرًا بارزًا في الصحف، وأن تُنَظَّم له جنازة كبيرة يمشي فيها كبار رجال الدولة يتوسطهم رئيس الدولة. مشهد كان يهزني — يا أمي — إلى حدِّ أنني كنت أتمنى، وأنا أمشي في مثل هذه الجنازات المهيبة، أن أكون أنا الذي داخل الصندوق، وحيث إنني لا أتذكر أنني كنت دائمًا سائرًا على قدمي خلفه؛ فأنا إذن كنت أعيش، لكني لم أكن أعيش في هذا العالم الذي تعيشون فيه، ولم يكن يشغلني ما يشغلكم، وإنما كنت مشغولًا بما هو أهم، وكان انشغالي بغير حدود، بأكثر مما يستطيع جسدي وعقلي تحمُّله، وفي بعض الأحيان كان جسدي يُرْهَق حتى يكفَّ عن الحركة، لكن عقلي يظل يشتغل، وفي أحيان أخرى كان عقلي يُرهَق حتى يكفَّ عن التفكير لكن جسدي يظل يتحرك ويروح ويجيء؛ فيذهب إلى المكتب ويحضر الاجتماعات، ويرأس المؤتمرات، ويستقبل الضيوف الرسميين في المطارات، ويحضر الاحتفالات، وقد يسافر إلى الخارج أيضًا في مَهمة رسمية. وكنت — يا أمي — حين أرى جسدي وهو يتحرك وحده هكذا بغير عقلي أدهش، بل أخاف، خاصة إذا كنت أجلس في اجتماع هام يقتضي مني التركيز والانتباه. وكان الاجتماع الهام الوحيد هو الاجتماع الذي أصبح فيه مرءوسًا، وكنت أكره — منذ أصبحت موظفًا في الحكومة — أن أكون مرءوسًا، وتعودت أن أكتم كراهيتي أمام رؤسائي ولا أنفِّس عنها إلا في مكتبي مع المرءوسين، أو في بيتي مع زوجتي كما كنت أرى أبي يفعل مع أمي. دائمًا كنت أعجِز عن التنفيس عن كراهيتي أمام رئيسي حتى وإن كان موظفًا عاديًّا كرئيس قسم أو مدير إدارة، فما بال الأمر حين يكون رئيسي ليس موظفًا مثل أي موظف في الدولة، وإنما هو رئيس الدولة كلها. ماذا تقولين يا أمي؟ نعم يا حبيبتي، كنت أجلس أمامه في مقعدي بجسدي وعقلي، مشدودًا منتبه الحواس شديد اليقظة، أخشى أن يسألَني فجأة سؤالًا لا أعرف إجابته، وإذا عرفت الإجابة فأخشى ألا تكونَ هي الإجابة الصحيحة، وإذا كانت هي الإجابة الصحيحة فأخشى ألا تكونَ هي الإجابة المطلوبة.
ماذا تقولين يا حبيبتي؟ نعم يا أمي، هذه هي ألف باء السياسة نتعلمها في أول درس؛ فالإجابة الصحيحة ليست هي دائمًا الإجابة المطلوبة، لكن الإجابة المطلوبة هي دائمًا الإجابة الصحيحة، وعلى الرجل منا أن يكون دائم الانتباه جسدًا وعقلًا لالتقاط الحقيقة الصحيحة من الحقيقة غير الصحيحة، وهي مَهمة شاقة يا أمي، أشق من أي مَهمة في الحياة. وكان عليَّ أن أجلس في الاجتماع منتبهًا بعقلي وجسدي، بالاثنين معًا، أجلس في مقعدي، ويدي اليسرى ساكنة في حجري، ويدي اليمنى ممسكة بالقلم فوق الورق، جاهزًا مستعدًّا لالتقاط الإشارة، أي إشارة، وقد لا تكون إلا إيماءة رأس أو حركة يد أو إصبع، أو الشفة السفلى يمطُّها في حركة خفيفة إلى الأمام، أو انقباضة عضلة صغيرة حول الفم أو الأنف، أو العين اليمنى أو العين اليسرى. وكان عليَّ أن أفرِّق بين حركة العين اليمنى من العين اليسرى، وأن أرى أي حركة لحظة حدوثها بل قبل حدوثها، وأن أفسرها في عقلي بسرعة، بل إن عقلي يجب أن يكون أسرع مني فيفسرها قبلي، وعيناي يجب أن تكونا أسرع من عقلي فتريا الحركة قبل أن تقع، وأذناي يجب أن تكونا أسرع فتسمعا الصَّوت قبل أن يحدث.
ماذا تقولين يا أمي؟ نعم يا حبيبتي، كنت أعتمد دائمًا في هذا الاجتماع الهام على حواسي الخمس، بل إن جسدي وعقلي كليهما كانا يتحولان — وأنا جالس في مقعدي — إلى كتلة عصبية شديدة الحساسية؛ كأسلاك رادارية عارية ملتفَّة بعضها حول البعض، تصنع رأسي وذراعي وصدري وبطني. وكنت — يا أمي — من شدة الحساسية أحس عضلات بطني ترتعش كأنما بها مسٌّ كهربائي متصل، وبالذات حين أقف إلى جواره أو بالقرب منه؛ فأحس بأصابع يدي اليمنى ترتعش، مع أنني أُمسكها بأصابع يدي اليسرى، وكلتاهما — اليمنى واليسرى — مضمومتان فوق صدري أو بطني، وساقاي أيضًا مضمومتان وأنا واقف أو جالس. كانت هذه هي الصورة — يا أمي — التي أُصبح عليها وأنا معه، وجسدي كان يعجِز دائمًا عن اتخاذ وضع آخر سوى هذا الوضع، وحين يسلَّط الضوء على وجهي، وتمر العدسات فوق جسدي لتصورني للناس، أحاول أن أفكَّ يدي اليمنى من اليسرى وأرفعهما عن صدري أو بطني، لكني لا أستطيع، وأجدهما ثقيلتين كأنهما مشلولتان. ماذا تقولين يا أمي؟ نعم يا حبيبتي، كانت هذه هي صورتي التي أراها في الصحف فأخجل من نفسي، وأكاد أُخْفِي الجريدة عن عيون أسرتي، وعلى الأخص عينَي ابنتي الصغيرة التي كانت تشير بإصبعها الدقيق إلى وجهي من بين الوجوه المرسومة في الجريدة، وتقول لأمها: «ليس هذا هو بابا يا ماما»، لكن أمها كانت ترد عليها بكبرياء زوجات الرجال العظماء قائلة: «إنه بابا يا حبيبتي، انظري كم هو عظيم وواقف مع رئيس الدولة!» ويرنُّ صوت زوجتي في أذني؛ فأدرك أنه ليس صوتها الحقيقي، وأن تحت الصوت صوتًا آخر تخفيه وتكتمه منذ الأزل وإلى الأبد، منذ تزوجنا وإلى أن نموت، وتخفي حقيقتها وحقيقتي معها في سرداب عميق سحيق في بطنها، أحسه أحيانًا تحت يدي كالدُّمَّل المزْمِن المتجمد الذي لم ولن ينفقئ.
ماذا تقولين يا أمي؟ لا يا حبيبتي، لم أكن أخجل إلا من عينَي ابنتي الصغيرة، فهما عينان على طفولتهما، بل بسبب طفولتهما كانتا دائمًا قادرتين على تعريتي وكشف حقيقتي التي لم يكن يقدر على كشفها أحد في العالم حتى أنا. أتذكرين — يا أمي — أنكِ كنتِ تقولين لي دائمًا إن الطفل مكشوف عنه الحِجَاب؟ لم أكن أصدقك في ذلك الوقت، لكني أدركت من بعدُ أنني أحيانًا، حين كانت ابنتي الصغيرة تنظر إليَّ بعينيها الواسعتين الثابتتين في عيني، كنت أحس أنني أخشى عينيها، وأظن أحيانًا أن هذه النظرة القوية الثابتة ليست نظرة طفل، وليست بالذات نظرة بنت، أو بالأَحْرَى بنت طبيعية، وأن البنت الطبيعية، بل الولد الطبيعي أيضًا يجب أن تكون نظرته أقل ثباتًا أو أقل وقاحة، وبالذات حين ينظر إلى شخص أكبر منه مقامًا وسنًّا وله سلطة عليه، فكيف الحال إذا كان هذا الشخص هو الأب، رب الأسرة وعِمادها، الذي يعمل والذي ينفق، ومن حقه على أفراد أسرته جميعًا الاحترام والطاعة، كبارًا كانوا أم صغارًا، وعلى الأخص الصغار؟
ماذا تقولين يا أمي؟ نعم، هذا هو كلامكِ الذي كنتُ أسمعه منكِ وأنا طفل صغير. وقد ظل في ذاكرتي على الدوام إلى حدِّ أنني كنت أقوله لزوجتي، وأردده لابنتي، وأقوله أيضًا لمن كان يقع من الموظفين تحت رئاستي أو سلطتي، وأشعر بالرضا عن نفسي وأنا أقوله إلى حد الزهو، وأرى الإعجاب في عيون الموظفين حولي؛ فيشتد إيماني بأن ما أقوله هو الحقيقة الثابتة منذ الأزل، وأن مَنْ يقول بغيرها فقد أخطأ أو كفر.
ماذا تقولين يا أمي؟ نعم يا حبيبتي، في حياتي كلها منذ كنت موظفًا صغيرًا إلى أن أصبحت وزيرًا، لم يصادفني موظف واحد قال بشيء آخر غير ما كنت أقول، وهذا هو السبب — يا أمي — في أنني لم أحتمل هذه الموظفة، ولم أحتمل أن أظل جالسًا في مقعدي هادئًا كعادتي، وقورًا كأي وزير حين يكون جالسًا بين موظفي وزارته، لم أحتمل — يا أمي — إلا أن أنتفض واقفًا صارخًا بغضب على غير عادتي، خارجًا عن وقاري، فاقدًا لصوابي. لم تكن تقول شيئًا ذا بال، لكنه غير الذي كنت أقوله، ولا أدري — يا أمي — كيف لم أحتمل، وكيف خرجت عن هدوئي ووقاري. ولم يكن غضبي عليها؛ لأنها نطقتْ بشيء آخر غير رأيي، أو لأنَّها موظفة صغيرة تختلف في رأيها مع الوزير، أو لأنَّها امرأة تعتد برأيها أمام رجل، أو لأنها قالت لي وهي تخاطبني «حضرتك»، في حين أن الموظفين جميعًا يقولون حين يخاطبونني: «يا معالي الوزير»، ولكن غضبت يا أمي؛ لأنها — وهي تكلمني — كانت ترفع عينيها في عيني بطريقة لم أَرَها من قبل، وهذه الحَمْلقة أو النظرة الثابتة القوية في حد ذاتها جرأة بل وقاحة إذا ما صدرت من رجل، فكيف إذا كان موظفًا؟ وكيف إذا كان امرأة؟ ولم يكن غضبي عليها أنها فعلت ذلك بل لأنني لم أعرف كيف فعلته، كيف تجرأت وفعلته؟!
ماذا تقولين؟ نعم يا أمي، كنت أريد أن أعرفَ كيف فعلت هذه المرأة ذلك، واستبدَّت بي هذه الرغبة في المعرفة إلى حد الغضب من نفسي؛ لأني لا أعرف ولأني عاجز عن أن أعرف. واستبد بي الغضب إلى حد أنني أصدرت في اليوم التالي أمرًا بإحضارها إليَّ في مكتبي، وتركتها واقفة أمامي وأنا جالس، وأشعرتها بأنها غير موجودة وتركتها واقفة وأنا جالس أتكلم في التليفون وأضحك مع من يحادثني، والغريب أنها ظلت واقفة، لم تكن تسمع صوتي أو تنظر إليَّ، وإنما كانت تنظر إلى صورة معلقة في الحائط. وبعد أن انتهيت من الحديث في التليفون كنت أظن أنها ستنظر إليَّ، لكنها ظلت تنظر إلى تلك الصورة المعلقة وكأنني غير موجود، وحاولت أن أدرس ملامحها قبل أن تحرِّك رأسها وتراني، لكنها حركت رأسها واستقرت عيناها القويتان الثابتتان في عيني. وانتفضت، كأنما سقطت عني ملابسي كلها دفعة واحدة، وشعرت بالخجل الذي ذكرني في لحظة سريعة خاطفة بعينَي ابنتي الصغيرة، وتحوَّل الخجل في لحظة خاطفة إلى رغبة في أن أُخجلها كما أخجلتني، ووجدت نفسي أصرخ في وجهها بصوت عالٍ على غير عادتي: «كيف تجرؤين؟! مَنْ أنتِ؟ ألا تعلمين أنكِ مهما كنتِ فلستِ إلا موظفة صغيرة وأنا الوزير، ومهما ارتفعتِ فأنت في النهاية امرأة، مكانها في الفراش تحت الرجل؟!»
ماذا تقولين يا أمي؟ نعم، أية امرأة تسمع مثل هذا الكلام من أي رجل لا بد أن تموت من الخجل، أو على الأقل تسقط مغشيًّا عليها من الخجل، فكيف إذا كان الرجل الذي يقول لها هذا الكلام ليس أي رجل وإنما رئيسها في الحكومة، وهو أيضًا ليس مديرًا فحسب أو رئيس قسم وإنما هو الوزير شخصيًّا، وهي لا تسمع هذا الكلام في حجرة خالية مغلقة، ولكن حجرة مكتبي كانت مليئة بالرجال، وكلهم من كبار الموظفين؟ نعم يا أمي، أية امرأة في مكانها كان لا بد أن يقتلَها الخجل، وكنت أود أن أقتلها بأي شيء وإن كان هو الخجل، لكن الغريب — يا أمي — أن هذه المرأة لم يكن يقتلها شيء ولم يَبْدُ عليها أي خجل، بل إنها لم تُطْرِق بعينيها إلى الأرض ولم يرمش لها جَفْن. ولعلكِ تتصورين — يا أمي — مدى الغضب الذي يمكن أن يشعر به أي رجل في مكاني وفي منصبي، وبشخصيتي ورجولتي، واعتدادي بنفسي أمام نفسي وأمام الموظفين في وزارتي، ولأنني أيضًا — يا أمي — لم أرَ في حياتي كلها موظفًا رفع عينيه في عينَي رئيسه، ولا امرأة رفعت عينيها في عينَي رجل، وإن كان أخاها أو أباها أو مديرها أو حتى ابنها، فما بالك إذا كان هذا الرجل أكثر من أبيها وأكثر من مديرها، وأكثر من أي رجل آخر في نظر نفسه وفي نظر الناس، وفي احترامه لنفسه واحترام الناس له؟!
وكنت كلما تذكرت — يا أمي — مدى إكباري لرجولتي وإكبار الناس لمركزي زاد غضبي واشتد إحساسي بهذا الغضب، فكيف تفعل بي هذه المرأة ما فعلت؟ وكان من الممكن — يا أمي — أن يخف غضبي بعض الشيء لو أنني رأيتها تُطْرِق بعينيها مرة، أو أن جفنها ارتعش لحظة واحدة، لكنها — يا أمي — كانت واقفة أمامي وعيناها مرفوعتان في عيني وكأنني لست رئيسها وهي ليست مرءوستي، وكأنني لست وزيرًا وهي ليست موظفة صغيرة، وكأنني لست رجلًا وهي ليست امرأة، وكأنني لست أنا وهي ليست هي. وكان غضبي يشتد كلما أحسست أنني لست أنا وهي ليست هي، وأقول لنفسي مَنْ هي حتى تجعلني أُحس أنني لست أنا؟! أو لعلي كنت أغضب أكثر كلما تذكرت أنني هو أنا، بما كنت عليه وبما أنا عليه من منصب وسلطة ورجولة واعتداد بنفسي. وكنت أشعر عن يقين — يا أمي — أنني هو أنا بكل ما كنت عليه، لكني يا أمي — وهذا ما هو أصابني بالجنون — كنت أحس في الوقت نفسه، وباليقين نفسه، أني لست أنا أو لم أعُدْ أنا كما كنت. ولعلك — يا أمي — تقدِّرين موقفي وتلتمسين لي العذر؛ لأنني كرهت هذه المرأة إلى حدِّ أن حرارتي ارتفعت في اليوم التالي إلى أربعين درجة مئوية، ولزمت البيت ورأسي الملتهب تحت كمادات الثلج، ولم تنخفض حرارتي — يا أمي — إلا بعد أن أصدرت كل ما في سلطتي وطاقتي من قرارات وزارية لتشتيت هذه المرأة والقضاء عليها قضاءً مبرمًا.
ماذا تقولين؟ أبدًا يا أمي، لم أستطع أبدًا أن أقضيَ عليها، وظلت هذه المرأة موجودة، وكنت أسمع بعض الناس بالصدفة يقولون أمامي: إنها لا تزال موجودة. لم أكن أسمع ذلك بالصدفة ولكني كنت أتجسس على أخبارها خفية؛ خشية أن يلحظني أحد، وبأمل أن أسمع عنها خبرًا سيئًا أو حادثًا قضى عليها، لكن أبدًا يا أمي! هذه المرأة ظلت موجودة في العالم، ليست موجودة فحسب كأية امرأة أخرى مثلها، ولكني رأيتها — يا أمي — مرة صدفة فإذا بها كما كانت، لم يتغير فيها شيء، وارتفاعة عينيها لم تتغير وجَفنها كما كان لا يرمش، مع أنَّها — يا أمي — رغم كل ذلك امرأة مثل أي امرأة أخرى، ولم يكن يغضبني أنها امرأة، وأني لم أَرَ امرأة فعلت مثلها، ولم يكن يغضبني أنها موظفة وأنا لم أَرَ موظفًا فعل مثلها، ولكن ما أغضبني وأخرجني عن صوابي هو أنني كنت عاجزًا عن القضاء عليها بأي قرار أو بأية سلطة، وأنها لا تزال موجودة، ووجودها يخرجني عن صوابي، ويخرجني عن وقاري، ويخرجني عن نفسي، وأنا أريد أن أعود إلى نفسي وإلى هدوئي، لكنها — يا أمي — ظلت موجودة، وأصبح وجودها كأنما هو يهدِّد وجودي.
ماذا تقولين؟ نعم يا أمي، لم أعرف كيف وصلت إلى هذه الحال؟ وكيف يمكن لموظفة صغيرة في الدرجة الخامسة أو السادسة أن تهدد وجود رجل كبير مثلي في منصب الوزير؟ لكني كنت غاضبًا، وغضبي كان أشد غضب عرفته في حياتي، ولم يكن ذلك الغضب لأنني عاجز عن القضاء عليها بأية قوة أملكها أو لا أملكها، وليس لأنها فعلت شيئًا لم يفعله أحد، ولكن ما أغضبني — يا أمي — حقيقة هو أنها فعلتْ ما لم أفعله أنا بالذات، وأنني في كل حياتي لم أستطع مرة واحدة أن أرفعَ عيني في عينَي أي رئيس من رؤسائي وإن كان موظفًا صغيرًا، ولا يملك عليَّ إلا سلطة صغيرة. وكان غضبي — يا أمي — يشتد كلما حاولت أن أعرف كيف عجزتُ عن ذلك وهي لم تعجِزْ؛ مع أنني رجل وهي امرأة، مثل أي امرأة أخرى؟!
ماذا تقولين؟ نعم يا أمي، كانت مثل أية امرأة أخرى، ومثلك يا أمي، نعم مثلك، لكني لم أرَ في كل حياتي أنكِ — يا أمي — رفعتِ عينيكِ في عينَي أحد كما رفعتْهما هذه المرأة في عيني، ربما لو أنني رأيتك مرة واحدة لاستطعت أن أحتمل هذه الموظفة، بل لو أنكِ رفعتِ عينيك مرة واحدة في عينَي أبي ربما استطعت أنا أيضًا أن أرفع عيني في عينيه، وربما استطعت أن أرفع عيني في عينَي أي رجل آخر في موضع السلطة. لكني لم أرَكِ — يا أمي — ترفعين عينيك في عينيه مرة واحدة، ولو أنكِ فعلت مرة فقد كان من الممكن لي أن أفعل مثلك؛ لأني كنت أفعل كل شيء مثلك، ولأنك — يا أمي — كنتِ مَثَلِي الوحيد وأنا طفل، وكنت أقلدك، في كل حركة من حركاتك أقلدك، وقد تعلمت الكلام؛ لأني حركت شفتي كما كنت تحركين شفتيك، وتعلمت المشي لأني كنت أحرِّك قدمي فوق الأرض كما كنت تحركين قدميك. تعلمت منكِ كل شيء يا أمي، فلماذا لم ترفعي عينيك في عينَي أبي لأتعلم منك كيف أرفع عيني في عينيه. ربما لو فعلتِ — يا أمي — مرة واحدة؛ لاستطعت وأنا طفل أن أكسر رهبته مرة واحدة، وربما استطعت وأنا موظف أن أكسر رهبة أي شخص في موضع السلطة.
ماذا تقولين يا أمي؟ لا يا حبيبتي أنا لا أعاتبك، ولكني أطلب أن تَرْبِتِي بيدك الحنون على رأسي وعنقي وصدري كما كنتِ تفعلين وأنا طفل، فأنتِ الوحيدة التي يمكن أن أفتح لكِ قلبي وأقول لك مأساتي الحقيقية، ومأساتي الحقيقة ليست أنني فقدت منصبي كوزير، ولكن المأساة هي كيف فقدته. وربما خفَّت المأساة بعض الشيء لو أنني فقدته بسبب خطير أو سبب هام أو حتى سبب معقول، لكن المأساة — يا أمي — أن السبب لم يكن معقولًا، ولا يمكن لأحد أن يعقله أو يصدِّقه، وربما لم أعرف — يا أمي — أنه سبب غير معقول إلا في ذلك اليوم الذي فتحت فيه جريدة الصباح فلم أعثر على اسمي بين الأسماء في الوزارة الجديدة، أحسست فجأة كأنما أصبحت ساقط قيد، كأنما اسمي سقط من فوق جسدي ولم يَعُدْ لي اسم، وفي كل يوم حين أفتِّش في الصحف عن اسمي فلا أجده يتأكد لديَّ الإحساس بأنني أصبحت جسدًا بغير اسم. والتليفون — يا أمي — الذي كان يرِنُّ كلَّ يوم وفي كل لحظة هاتفًا باسمي، أصبح صامتًا أخرسَ لا ينطق، وكأنما أسقطني هو الآخر وأسقط اسمي. وهذا — يا أمي — شعور مرير بالسقوط لم أعرفه في أية مرحلة من حياتي. ماذا تقولين يا أمي؟ نعم يا حبيبتي، لك أعرف إلا هذه اللحظة طعم الشيء الذي فقدته، وأخشى — يا أمي — أن تكون هذه هي صفة الحياة أيضًا، وأنَّا لن نعرف طعمها إلا بعد أن نفقدَها، وهذه — يا أمي — في حد ذاتها كارثة ما بعدها كارثة؛ لأن الوقت يكون قد فات، والفرصة قد ضاعت إلى الأبد. ولعل هذا كان حالي وأنا جالس بجوار التليفون الصامت أنتظر، وأخشى أن يلمحني أحد من أفراد أسرتي وأنا جالس أنتظر، فإذا بي أتظاهر بأنني لا أنتظر، مع أنني كنت أنتظر أن أسمع التليفون يرن، أن يرنَّ مرة واحدة بأي شكل وبأي صوت، رجل أو امرأة، قريب أو غريب، كبير أو صغير، إنسان أو حيوان، أي صوت وإن كان هو نهيق الحمار، أن يرنَّ التليفون ولو مرة واحدة فقط ويهتف باسمي. ماذا تقولين يا أمي؟ لا يا حبيبتي، لم تكن الكارثة هي أن التليفون لم يكن يرن، ولا أنني كنت أريده أن يرن، لكن الكارثة — يا أمي — أنني اكتشفت أن رنين التليفون الذي كنت أُعلن دائمًا عن كراهيتي له لم أكن أكرهه بل إنني كنت أحبه، وأنه كان يبعث في جسدي بجرسه المتصل لذةً عرفتها في حينها؛ ولما كانت هناك قوة في العالم تستطيع أن تحرمَني منها، فهذه اللذة — يا أمي — كانت تفوق لذة الجنس ولذة الحب ولذة الأكل وكل شيء في الدنيا. كانت كأنما هي لذة غير دنيوية أو غير بشرية، لا تعرفها غرائز البشر أو مشاعرهم، فهي غريزة بغير مشاعر وبغير غرائز، غريزة سحقت المشاعر وسحقت الغرائز، وبقيت هي وحدَها قوية جبارة عارمة، قادرة على أن تسحق أي شيء في العالم. تسحق التعب وتسحق الإرهاق، وتسحق الكرامة وتسحق الإهانة، وتجعل جسدي قادرًا على الحركة والنشاط، حتى وأنا نائم، وتجعل عقلي يشتغل في أحلامي أيضًا، وتجعلني — بعد أي جهد متصل — واقفًا على قدمي فوق أرض المطار تحت قُرص الشمس، منفرج الأسارير في استقبال أي ضيف رسمي، وتجعلني جالسًا مشدود عضلات الوجه والظَّهْر في أي اجتماع وفي أي حفل، وتجعلني جاهزًا في أي لحظة بالليل والنهار لاتخاذ الوضع الرسمي بالساقين المضمومتين واليدين المشبوكتين فوق الصدر أو فوق البطن. نعم يا أمي، هذه اللذة العارمة كانت قادرة على سحق أي تعب أو أي جهد، بل إنها كانت قادرة على سحق نفسها وسحقي معها لو أرادت.
ماذا تقولين يا أمي؟ نعم يا حبيبتي، لقد ضيَّعت كل هذه اللذة من أجل شيء تافه، وأي شيء في الحياة يمكن أن يكون تافهًا إلى جانب هذه اللذة؟ لكن الحقيقة — يا أمي — أن هذا الشيء لم يكن تافهًا، لم يكن شيئًا بسيطًا عاديًّا، وإنما كان غير بسيط وغير عادي. كان أخطر شيء يمكن أن يحدث لي، وأخطر شيء يمكن أن أواجهه كالموت — يا أمي — بل إن الموت نفسه كنت أظن في بعض الأحيان أنني أستطيع أن أواجهه. لكني في ذلك اليوم لم أعرف ما الذي حدث لي، مع أنني كنت أجلس في مقعدي كعادتي، منتبه الجسد والعقل، منتبه الأعصاب والحواس الخمس، وجسدي وعقلي كلاهما قد تحوَّلا إلى تلك الكتلة العصبية الرادارية، عارية وحساسة لأي إشارة أو أي حركة. وكنت أجلس في مقعدي كعادتي، عن يقين كنت أدرك أنني كعادتي، ولكني كأنما بيقين آخر كنت أدرك أنني لست كعادتي، وأنني — رغم أنني شديد الانتباه — عاجز عن الانتباه، وأنني لأول مرة في حياتي عاجز عن أن أركز عقلي أو أسيطر عليه، وأن عقلي أصبح يفكر وحده بدوني، وينشغل بشيء لا أريد أن أنشغل أنا به، وهذه كارثة في حد ذاتها لو حدثت لموظف عادي في أي اجتماع، فما بالي أنا كوزير، وفي هذا الاجتماع الوحيد الهام الذي أتحول فيه إلى مرءوس؟ والكارثة — يا أمي — لم تكن أن عقلي خرج من سيطرتي، فلو أنه فعل ذلك من أجل أن يفكر في شيء هام مثل التقرير السنوي الذي كنت سأعرضه، أو الميزانية الجديدة التي كنت سأطلبها، ربما كنت أشعر بشيء من الراحة والعزاء، لكن الكارثة أن عقلي لم يكن يفكر في شيء هام، بل كان يفكر في شيء تافه، أتفه شيء يمكن أن ينشغل به عقل رجل في مثل منصبي، وفي مثل هذا الاجتماع بالذات.
ماذا تقولين يا أمي؟ لا يا حبيبتي، لم أكن أفكر في أحد، وإنما كنت أفكر في نفسي، كنت أريد أن أعرفَ كيف أجلس في مقعدي كعادتي، ومع ذلك فأنا لست كعادتي، كنت أريد أن أعرف هل أنا الذي يجلس في مقعدي أم شخص آخر؟ وأي واحد من هذين الشخصين هو أنا؟ والمشكلة — يا أمي — لم تكن أنني لم أستطع أن أعرف، لكن المشكلة أنني كنت أعرف أن السبب الوحيد في هذه الكارثة لم يكن إلا تلك الموظفة الصغيرة، وأنني ألعن اليوم الذي رأيتُها فيه، فأنا منذ ذلك اليوم وعقلي لا يكفُّ عن التفكير فيها. وربما كنت أجد شيئًا من الراحة أو العزاء لو أن ما يشغلني بها كونها امرأة أو أنثى، فأنا في النهاية رجل، وأي رجل مهما بلغ أي منصب فهو من الممكن أن ينشغل أحيانًا بامرأة. لكن المأساة — يا أمي — أنها لم تكن تشغلني في ذلك الوقت كامرأة أو كأنثى، فهي في نظري لم تكن أنثى على الإطلاق، وربما هي المرأة الوحيدة التي رأيتها في كل حياتي فلم تُشْعِرني لحظة واحدة بأنها أنثى، لكن الشيء الذي شغل عقلي وسيطر عليه إلى حدِّ خروجه عن إرادتي هو أنها — رغم كونها أنثى، ورغم كونها موظفة صغيرة — أصغر موظفة يمكن أن تدخل إلى مكتب وزير؛ فقد استطاعت أن تفعل شيئًا خارقًا للعادة، خارقًا لكل العادات التي درجنا عليها منذ وُلِدْنَا، ولكل القيم التي عرفناها منذ وُجِدْنَا في الحياة وأصبحنا بشرًا. والمأساة — يا أمي — ليست أنها فعلت ذلك، وليست أنها فعلتْ ما لم يفعله أحد أو ما لم أفعله أنا، لكن المأساة أنها منذ فعلت هذا وأنا لم أعُدْ أنا، والذي أصبح يجلس في مقعدي ليس هو أنا، وإنما شخص آخر لا أكاد أعرفه بل إنني لم أكن أعرف أي الشخصين هو أنا. وكان هذا — يا أمي — هو السؤال المحدد الذي سيطر على عقلي، وسيطر على جسدي وحواسي الخمس في ذلك الاجتماع، وكنت أحاول — يا أمي — أن أقاومَه، كنت أستجمع كل قوتي لأقاومه، لأطرده من رأسي، إلى حد أن يدي اليسرى كانت تتحرك وحدها كأنما هي تطرده من رأسي، وكانت يدي اليمنى كعادتها ممسكة بالقلم فوق الورق جاهزًا مستعدًّا لأي إشارة أو صوت. وكان المفروض أن تظل يدي اليسرى — كعادتها — ساكنة في حجري، لكنها لم تكن ساكنة، ومن كان يراها وهي تتحرك على النحو الذي كانت تتحرك به يظن أنني أهش عن وجهي ذبابة عنيدة، ولأن قاعة الاجتماع كانت نظيفة خالية من الذباب، أنظف قاعة في البلد، وآخر قاعة فوق الأرض يمكن أن تدخلَها ذبابة؛ فقد أصبحت حركة يدي اليسرى غير طبيعية، ولأنها كانت غير طبيعية فقد بدأت تلفت النظر، وكنت أكره — يا أمي — أن يلتفت إليَّ النظر في مثل هذا الاجتماع الهام، وأفضِّل أن أظل جالسًا في مقعدي غير لافت للنظر أو غير منظور على الإطلاق، إلى أن ينتهيَ الاجتماع على خير ولا أواجَه بأي سؤال.
ماذا تقولين يا أمي؟ يا حبيبتي، لم أكن أخشى السؤال، ولم أكن أخشى ألا أعرف الإجابة الصحيحة؛ فقد كانت الإجابة الصحيحة معروفةً سهلة، أسهل من أي إجابة أخرى، أسهل من أي مسألة في الحساب قابلتُها وأنا تلميذ، كأبسط عملية في جدول الضرب، واحد زائد واحد يساوي اثنين، لكن الصعوبة — يا أمي — هي أنني لم أكن أخشى ألا أقول الإجابة الصحيحة، بل أن أقول الإجابة الصحيحة.
ماذا تقولين يا حبيبتي؟ نعم يا أمي، لقد كانت هذه هي الكارثة الحقيقية التي وقعت في ذلك اليوم، ولست أدري كيف وقعت، ولست أدري هل أنا الذي قلتُها أم الشخص الآخر الذي كان يحتل مقعدي، وكنت لا أزال جالسًا في مقعدي كما وصفتُ لك، ويبدو أن حركة يدي اليسرى المتكررة قد لفتت النظر، فإذا بعينيه تتجهان نحوي تذكرني في لحظة خاطفة بعينَي أبي وأنا طفل، حينما كانت عيناه تتجهان نحوي، وكنت أحاول أن أتراجع بجسدي قليلًا إلى الوراء أو إلى الأمام، كما كنت أفعل وأنا تلميذ أجلس في الفصل، بأمل أن تسقطَ العينان على الجالس أمامي أو خلفي ولا تسقطا عليَّ أنا لكني في هذا اليوم لم أتحرك من مقعدي، ربما لم أنتبه في اللحظة المناسبة إلى حركة عينيه قبل أن تبدأَ نحوي، أو ربما أنني لم أكن في تلك اللحظة بكامل عقلي، أو لأنني كنت مريضًا بالحُمى وحرارتي كانت مرتفعة أو لأي سبب آخر. المهم — يا أمي — أنني لم أتحرك في مقعدي وسقطت عيناه فوقي بكل ثقلهما كما يسقط الموت، وحينما سألني السؤال انفتح فمي وحدَه بغير إرادتي وكأنه فم شخص آخر غيري، شخص متهور سريع الإجابة بغير تفكير كثير أو جهد كبير، ولأنها كانت إجابة بغير تفكير كثير وبغير جهد كبير فقد كانت هي الإجابة السهلة، أسهل الإجابات وأكثرها بساطة، لقد كانت هي — يا أمي — الإجابة البديهية.
ماذا تقولين يا حبيبتي؟ لا يا أمي، لم تكن الإجابة البديهية هي الإجابة الصحيحة؛ فالإجابة الصحيحة لم تكن هي الإجابة المطلوبة، وهذه هي — يا أمي — ألف باء السياسة كما قلت لك في البداية، وأول درس تعلمتُه في السِّياسة، كيف نسيته يا أمي؟ لا أعرف، لكني نسيته في تلك اللحظة، وكم حزنت — يا أمي — لأنِّي نسيته، وحزني كان شديدًا إلى حدِّ عدم الإحساس بالحزن، بل إلى حد الإحساس براحة تكاد تشبه الفرح؛ فلقد أحسست — يا أمي — أن عبئًا ثقيلًا كان جاثمًا فوق صدري وبطني أثقل من يدي الاثنتين المشلولتين المضمومتين فوق صدري أو بطني، وأثقل من جسدي جالسًا مشلولًا في مقعدي، بل أثقل من المقعد ومن الأرض تحت المقعد لو أن الأرض جلست عليَّ بثقلها ولم أكن أنا الجالس عليها.
ماذا تقولين يا أمي؟ نعم يا حبيبتي، استرحت وأي راحة، وكم أشعر بهذه الراحة في هذه اللحظة الأخيرة وأنا أغادر هذه الدنيا بكل ما فيها، ولكن الكارثة — يا أمي — أنني رغم هذه الراحة ورغم أنني أغادر الدنيا فلا زلت أضع التليفون بجوار رأسي، ولا زلت أنتظر أن يرنَّ مرة واحدة، أن أسمع الجرس مرة واحدة، ويرن الصوت — أي صوت — في أذني ويقول: «يا معالي الوزير»، كم أود — يا أمي — أن أسمعَها مرة واحدة فقط قبل أن أموت!