رسالة حب عصرية
أكتب إليك هذه الرسالة يا صديقي كمحاولة لأن تفهمني أو أفهمك أو أفهم نفسي، وقد تكون النتيجة لا شيء، فمَنْ ذا الذي يمكن أن يفهم نفسه أو يفهم الآخر؟ مَنِ الذي يمكن أن يكسر القوقعة؟ إن محاولة الكسر ليست إلا تأكيدًا لعدم الكسر، ومحاولة الفهم ليست إلا مزيدًا من الإغراق في عدم الفهم. ومع كل ذلك أنا أحاول، أدرك عن يقين أن محاولتي عبث، ولكني لا أكف عن المحاولة؛ كالحياة لا أكف عن العيش فيها وأنا أدرك أنني لا محالة ميتة.
قد تدهش وقد لا تدهش لأني أسمِّي هذه الرسالة رسالة حب؛ فالعلاقة بيننا لم ننطق فيها بكلمة الحب، ربما استخدمنا كلمات أخرى، مثل الود والصداقة والإعزاز، وكلها كلمات بلا معنًى، بلا تحديد، فما معنى كلمة «الود» التي وصفنا بها علاقتنا مرة؟ إنها لا تعني شيئًا، إنها لا تعني الحب، ولا تعني عدم الحب، وإنما ذلك الشعور المتوسط بين الحب واللاحب، ذلك الموقف المتوسط بين الشيء واللاشيء، حين يحب الإنسان ولا يحب، ويغضب ولا يغضب، ويكره ولا يكره، ويقول ولا يقول، ويمسك الحبل دائمًا من الوسط. ذلك الموقف المتمَيِّع المتوسط في كل شيء، والذي يقدسه أطباء النفس ويطلقون عليه اسم الصحة النفسية. هذه الصحة — في نظرهم — هي أن يكون الإنسان متوسطًا في كل شيء، متوسط الذكاء، متوسط الحماس، متوسط الحب، متوسط الكراهية، متوسط الطموح، متوسط الصدق.
ولأن الصدق لا يعرف التوسط فلا بد للإنسان من قَدْر من الكذب ليحظَى من أطباء النفس بلقب السليم نفسيًّا، ولأن الحب كالصدق لا يعرف التوسط فلا يمكن أن تعني كلمة «الود» شيئًا في أية علاقة.
ما هي العلاقة بيننا؟ كيف نشأت؟ هل كانت لها نقطة بداية؟ أو بعبارة أخرى: هل بدأت في أول لقاء أم آخر لقاء أم في المنتصف؟ أحاول الآن أن أستجمع الخيوط في ذاكرتي لأعرف متى كان أول لقاء، وكيف بدت ملامحك أمام عيني، محاولة تبدو لي الآن مستحيلة، كمحاولة تذكُّر المرة الأولى التي رأيت فيها وجهي في المرآة أو وجه أمي أو أبي، هناك ملامحُ ما إن تقع عيوننا عليها حتى تبدوَ وكأنما كانت معنا طول الوقت، كأنها جزء منا أو داخلنا وليست شيئًا خارجًا عنا. هل تذكر أنت أول مرة رأيتني؟ متى كان ذلك؟ في مكتبك، في مكتبي، في بيتك، في بيتي، في حقل أو في تجمع من تلك التجمعات التي يلتقي فيها دائمًا هؤلاء المثقفون. تلك الوجوه المشدودة في الابتسام وفي التكشيرة معًا، والأشداق المنفوخة في الحديث وفي الصمت، وعضلات البطن المرتخية في الشهيق وفي الزفير، ونظرة العين الشاخصة دائمًا إلى فوق، مهما كان هذا الفوق، أحمر أو أخضر، ثمينًا أو رخيصًا.
حين أنظر في عينك لا أشعر أنك تنتمي إلى هذه الطبقة، في عينك أرى نظرة مختلفة، تجعل الأشياء مختلفة، أقل تناقضًا؛ فالابتسامة ابتسامة، والتكشيرة تكشيرة، وملامحك تتحرك مع عضلات وجهك بحركة طبيعية تلقائية، لا أراها ولا أشعر بها، وإن كنت أعرف أنها موجودة كحركة الزمن وحركة الأرض وحركة الطائرة لا أشعر بها وأنا داخلها، ولكني أعرف أن الحركة موجودة.
أحيانًا تلوح هذه النظرة وأنا نائمة، أو سائرة في الشارع، أو جالسة، أو واقفة، أو راكبة سيارتي، أو منهمكة في عمل. وتظل أمامي بشكل مُلِحٍّ غريب، تخرجني من الحالة التي كنت فيها، وتُرغمني على أن أتأملَها، أن أفهم سبب إلحاحها وأصرفها عني برقة أول الأمر، ثم بشدة ثم بقسوة ثم بغضب يشبه الجنون.
ألحت عليَّ مرة في إصرار شديدة؛ فقلت لنفسي: ربما هو الشعور بالوحدة، مكتبي مزدحم وبيتي مزدحم والقاهرة مزدحمة، ولكنا مثل هذه المدن الكبيرة نعيش الزحام والوحدة معًا، بين الواحد والواحد منا — رغم تلاصق الأجساد — جدار سميك، ويرتفع الجدار بارتفاع الإنسان في السُّلَّم الاجتماعي. وفي الليل حين تنام المدينة وتغط في النوم، أتلفت حولي كوحيد أو يتيم، أفتح مفكرتي الصغيرة، وتمر عيناي على الأسماء وأرقام التليفونات. أرقام كثيرة وأسماء كثيرة مرتبة حسب الحروف الأبجدية، ومع ذلك ليس هناك مَنْ يستطيع أن يبدِّد الوحدة، هذه المدينة الكبيرة تظل أمامي خالية من الرجال، إنها تكتظ بالذكور، لا يقابل الواحد منهم امرأة وحيدة حتى يفكرَ في القفز عليها. الحياة في عالمنا صُنِعَت للرجال، ليس فيها ما يمكن أن يؤنس امرأة إلا ذلك النوع من المؤانسة التي لا تؤنسني ولا تطربني، ولا تظهر من الحياة إلا قبحها، ولا من الرجال إلا عورته.
من حين إلى حين يدق جرس تليفوني، ومن حين إلى حين أقبل دعوة رجل، فضول غريزي لاكتشاف الحقيقة، رغبة استطلاع لمعرفة الحياة والناس، محاولة لتبديد الوحدة. أدرك استحالة أن أعيش داخل نفسي، استحالة أن أبقى بغير الآخرين، لو كتبت لنفسي فقط لاختنقت في كلماتي، ولو كلَّمت نفسي فقط لاحتبس صوتي، ولو نظرت إلى وجهي طول الوقت لفقدت عقلي.
ومع ذلك فأنا أهرب دائمًا من الآخرين، وأحب الاختفاء بعيدًا عنهم، ولكنه اختفاء عن عيونهم من أجل البقاء في أذهانهم، إنه ابتعاد من أجل القُرب، وانفصال من أجل الاتصال. وهذه مأساتي، أريد أن أكون ذاتًا منفردة منفصلة، وأريد في الوقت نفسه أن أكون جزءًا لا ينفصل عن الآخرين. وهذا التناقض يمزقني، يجعلني جزأين أو اثنين؛ واحدة داخل نفسي بعيدة عن الآخرين، وواحدة خارج نفسي في قلب الآخرين. واحدة ساكنة بغير حركة تراقب حركة الأخرى، أنا أراقب الأخرى أم الأخرى هي التي تراقبني أنا؟ ومَنْ منا الساكنة في الزمان والمكان ومَنْ منا المتحركة داخل الزمن وفوق الأرض؟
وأنشغل بالإجابة على هذه الأسئلة بينما يجلس الرجل صاحب الدعوة أمامي صامتًا، ينظر إليَّ من حين إلى حين ليرقب أية حركة مني أو نظرة تشجعه على أن يقودني إلى السرير. وحينما لا يجد شيئًا يندهش، وقد يتساءل ما إذا كنت مصابة بعُقَد القرن العشرين، وأنني كامرأة الغاب لا أزال أعشق الاغتصاب والأنين.
لا يمكن أن أنكر أن فكرة الاغتصاب لها عندي — كفكرة الانتحار — جاذبية وحنين. وفي أعماقي من القرون الوسطى — مهما صارعت — بقايا أو بذور، لكني لا أنتحر أبدًا، ولا أحد يمكن أن يغتصبني. مهما تأزمت الحياة واختنقت لا أنتحر، ومهما رغبني رجل حتى الموت لا يستطيع. لست كما قلت لي مرة إنني أقتل الرجل أو أخصيه، ولكني أستطيع دائمًا أن أثبت عيني في عينه، وأستطيع دائمًا أن أرى العضلة حول فمه ترتعش، وأصابع يده حول يدي ترتعش. قد لا تكون إلا رعشة سريعة لا تستغرق إلا لحظة أو جزءًا من اللحظة، لكنها تكفي دائمًا لأن أراها، ولأن تنهزم إرادته أمام إرادتي، وتصبح قوته العضلية — بل قوة رجال العالم أجمع — عاجزة عن أن تجعل عضلات يدي تلين تحت يده.
قلت لي مرة إنني امرأة قوية، والحقيقة أنني لست قوية دائمًا، أحيانًا أترك يدي تلين، وأحيانًا أشعر بالضياع كذرَّة صغيرة في قبضة خِضَمٍّ وحشي أو كائن ضخم كالقَدَر مفترس، وأشعر أنني عاجزة عن صنع شيء بإرادتي أو اختياري، وأنني عاجزة عن الإمساك بالحقيقة والواقع. سألتني مرة عن أحلامي، والحقيقة أنني أعيش معظم الوقت في أحلامي، أحلامي هي التي أختارها وأغيرها، أما الواقع فهو يغيرني بغير اختياري. ولم أعُد أرى الواقع واقعًا إلا إذا كان له جذور في أحلامي، أعترف لك أن عقلي الباطن أكثر قوة من عقلي الظاهر، وفي معظم الأحيان أنا أطيعه.
في حلم من أحلامي رأيتك، كنت تجلس معي في مكان بعيد جدًّا عن الناس، مغلق علينا وحدنا، شيء لم يحدث لنا في الواقع أبدًا، وكنت أجلس بالقرب منك. في أعماقي حركة عنيفة وعلى السطح هدوء وسكون، ونوع من السعادة الغامضة الحزينة، ونبض صامت في الجسد، ونشوة عارمة ورغبة شديدة إلى حد عدم الرغبة في شيء. ولم أعرف بالضبط ماذا كنت أريد، أن تظل عيناك في عيني إلى الأبد؟ أن ترتفع ذراعاك فتحوطني وتخفيني في أعماقك إلى الأبد؟ وأفتح عيني من النوم لكنك تظل في مكانك بالقرب مني، وأغمض عيني لأتخلَّص منك، لكنك تظل موجودًا بالقرب مني، تكاد تلمسني ولا تلمسني، تكاد تتركني ولا تتركني، لماذا؟ لماذا لم تكن تتركني؟ هل بينك وبيني شيء إجباري؟ هل أجبرك أحد؟ أو هل أجبرني أحد؟ أعرف أنه لا أحد، لا أحد على الإطلاق، ومع ذلك لا أستطيع أن أقول إنني أذهب إليك باختياري وإرادتي، أو أن علاقتي بك ليست مفروضة عليَّ، كالهواء يدخل صدري ويخرج، والدم يتحرَّك في عروقي.
هذا الجانب اللاإرادي في علاقتي بك يثير تمردي؛ فأنا أعبد حريتي، وهذا هو السبب في أنني أثور عليك، وأحيانًا أقول لك لن أراك بعد هذه المرة، أو أحاول أن أجمع لك الأخطاء وأستقطب زلات اللسان. وقد أتهمك بما أتهم به الرجال الآخرين، لكنها ثورة فاشلة دائمًا، تشبه ثورتي على نفسي أحيانًا، ورغبتي في إلقاء جسدي أحيانًا من النافذة والتخلص منه إلى الأبد. والنتيجة دائمًا واحدة، وهي أن جسدي يظل ملتصقًا بي فوق المقعد، وأنت تظل في مكانك أمام عيني، وبالقرب مني تكاد تلمسني لكنك لا تلمسني، لماذا لم تلمسني أبدًا؟ هل أنت مجرد طيف؟ أم لك وجود حقيقي؟
أحيانًا حين كنت توصلني إلى الباب كنت أحس كأنما هناك حركة سريعة من يدك فوق يدي، أو من ذراعك حول خصري، لم تكن حركة، وإنما هي لمسة خفيفة سريعة، ما إن تحدث حتى تنتهي، بل لعلها لم تكن أيضًا لمسة؛ لأن مسافة ما كانت تظل دائمًا بين يديك وجسمي، مسافة صغيرة جدًّا كالشعرة، ولكنها كافية دائمًا لأن تفصلَنا، ولأن تبدِّد عندي لحظة اليقين. وأسأل نفسي مرة أخرى أحقيقة هو أم حلم؟ لماذا تظل دائمًا هذه المسافة؟ أهو خوفي منك؟ أم خوفك مني؟ وهل هناك حقًّا ما يخيف؟
أردت مرة أن أبدِّد الحلم وأمد يدي وأمسك باليقين، دعوتك عندي في بيتي، هل تذكر التاريخ؟ وسمعت في صوتك ذبذبة غامضة تشبه الدهشة أو التردد أو الخوف أو عدم اليقين. ولم تأتِ ولم أسألْك لماذا. كنت أعرف أنك مثلي تريد دائمًا أن تتأرجح بين الشك واليقين.
أهناك شيء يبدد الشك؟ أهناك دليل على شيء؟ ما من نقطة محدودة بيني وبينك أستطيع الإمساك بها، ولا كلمة تصلح، ولا لغة، ولا حركة، ولا لمسة، ولا شيء بيننا على الإطلاق يؤكد أي شيء. ولكنْ هناك شيء واحد أنا على يقين منه (وهذا أيضًا غير قابل للإثبات)، وهو أنك تشعر نحوي تمامًا بما أشعر به نحوك، وبالقدر نفسه، وبالشكل نفسه، وفي اللحظة نفسها. هل أنا مخطئة؟ قد أكون وقد لا أكون.
وهكذا أنا دائمًا يا صديقي، أقترب منك وأبتعد، أظهر وأختفي، أتقدَّم إلى الأمام ثم أتراجع، أصمم على المواجهة ثم أهرب. واليوم يمر وراءَ اليوم، والشهر وراءَ الشهر، عشرون شهرًا أو أكثر. قلت لي مرة إن الأيام من حياتي تمر، واليوم الذي يذهب لا يعود، وأنني أضيع عمري بحثًا عن المستحيل أو عن المطلق، وأن أحدًا لن يملأ عيني إلا الله. كنت في ذلك اليوم أخفي عيني وراءَ نظارة كبيرة، وطلبت مني أن أخلعَ النظارة؛ فخلعتها، وأصبحت عيناك في عيني، وكدت أعرف وأقول إنك في حياتي الحقيقة واليقين، لكن جرس التليفون دق أو جرس الباب أو حركة ما حدثت. ربما أطلَّ علينا وجه طفل من أطفالك، ربما أنت حركت عينيك بعيدًا عن عيني، ربما أنت حركت رأسك أو ذراعك، وخُيِّل إليَّ أنك تنظر في الساعة.
حركة ما سريعة — عن قصد أو عن غير قصد — لم تستغرق أكثر من ثانية أو جزء من الثانية، ولكنها كانت كافية لأن تمزق الشعرة الحريرية الرقيقة التي يمتد فوقها الإحساس باليقين.
قلتَ لي مرة إنني من الحياة أهرب، وعن الحب أعجز، وأنني مصابة بمرض العصر، وأنني في حاجة إلى أقراص أو دواء، أو شيء من هذا القبيل. ودُهشت ولم أُدهش، وحزنت على نفسي ولم أحزن، وأوشكت أن أحس المرض وأبتلع أقراص نهاية القرن العشرين. وسألتَني مرة أو أكثر من مرة لماذا لا أبتلع الأقراص ككل المثقفين؟ ولكني يا صديقي لا أنتمي إلى هذا العصر، ولست من هؤلاء المثقفين، ولا أقرأ الصحف كما يقرءون، وعيناي تغمضان — رغم أنفي — حين تلمحان الصحف، وأذناي تنغلقان حين يرتفع في الجو صوت قراءة الأخبار. وحين أسير في الشارع لا أرى الوجوه، وأبدو للناس كالعمياء الصماء لكني يا صديقي لست عمياء ولست صماء. أنا أرى كل وجه يمر أمامي، وأقرأ كل حرف يسطَّر على وجه الأرض، وأسمع كل صوت، وإن كان دبيب النملة أو دقة قلب يتيم في صدر طفل. هل تظن أنني أَهْذِي؟ هل تظن حقيقة أنني لا أرى؟ ولكنني رأيتك مرة وأنا أسير في شارع التحرير. كانت سيارتك مسرعة، وكل السيارات مسرعة، وكان وجهك مرهقًا، وكل الوجوه مرهقة، وكانت عيناك حزينتين، وكل العيون حزينة، وكان الزحام شديدًا والأجسام متلاصقة والعربات متلاصقة، والهواء راكد لاصق، والكل يلهث عرقًا في الخِضَمِّ، والكل يكاد يختنق ويصرخ مستغيثًا طلبًا للنجاة. لكن أحدًا لا يرى أحدًا، ولا أحد يسمع أحدًا، ولا أحد ينقذ أحدًا.
استطعت — رغم السرعة — أن أتأمَّل وجهك لحظة خاطفة، لم تكن ملامحُك هي ملامحك، ولم تكن عيناك هما عينيك. وقلت لنفسي هو أم ليس هو؟ واستدرتُ خلفي بسرعة، كانت سيارتك قد اختفت في الخِضَمِّ، لكني استطعت أن ألتقطَ الرقم، ووقفت لحظة جامدة، كنت أسأل نفسي من أين هو قادم؟ وإلى أين هو ذاهب؟ ولماذا هو يجري مسرعًا؟!
كنت أعرف أنك قادم من مكتبك، وأنك ذاهب إلى بيتك، أو إلى موعد مع كبير أو صغير، مع مريض أو سليم. كنت أعرف كل ذلك، لكني وقفت أتلفت حولي في ذهول كأنني لا أعرف شيئًا.
ثم سرت في طريقي مرة أخرى، رأسي ثقيل وقلبي ثقيل، وذلك الاكتئاب البارد الزاحف، وسؤال بغير جواب: لماذا كل هذا؟ ومن أجل ماذا؟ أهو الجري وراء المال؟ أهو السعي وراء السلطة؟ أهو البحث وراء الشهرة؟ ولكن عندك من كل هذا الكثير، فماذا إذن؟ أهو الحب؟ ولكن أيمكن للحب أن يجعل الوجه مرهقًا والعينين حزينتين؟
وأحسست أنني أكره هذه المدينة، وأكره هذه الوجوه، وأكره هذه العيون، وأكره عقارب الساعة، وكل شيء. حاولت من شدة الكراهية أن أغلق عيني وأغلق أذني وأغلق مسامَّ جسدي. رغبة عارمة في الجري بأقصى سرعتي والابتعاد عن كل شيء. رغبة عارمة في الانفصال عن الكون إلى حد الموت.
لكن شيئًا واحدًا لم أرغبْه؛ أن يضيعَ مني في الزحام وجهك، وأن تختفيَ من أمامي في الزمن عيناك. تعرف يا صديقي أنني لا أرغب منك شيئًا؛ فأنا آكُل وأشرب وأنام، وأمارس الجنس، وأقود سيارة مثل سيارتك، ولكني لا أريد أن تضيعَ مني في هذا الخِضَمِّ. الحياة أمامي من غيرك كفيلم صامت غير ملون، أبيض وأسود فحَسْب، ولكن كل شيء معك يتغير، وتعود الألوان، وتصبح الأشياء كلها ملونة بجميع ألوان الطيف.
في هذه اللحظة أود لو ارتفعت يدي، وحوطت أصابعي يديك، لو تحوَّل عمري كله إلى أصابع رقيقة حانية ولامست وجهك، لو تمزق جسدي كله إلى ملايين الأنامل الصغيرة الدقيقة ومسحت الإرهاق في عينيك. أيمكن بعد كل هذا أن تتهمني بالعجز عن الحب؟ أيمكن أن تقول لي مرة أخرى إنني لا أفهم وليس عندي ذكاء فطري؟ أيمكن أن تفهمَني قليلًا أو أفهمَك قليلًا؟ أرجو ذلك، بل لا بد!