القناع
تنبهت فجأة فرأيتُ نفسي جالسة وأمامي زجاجة خمر لم يبقَ منها إلا القليل، ومطفأة سجائر مليئة بأعقاب سجائر من نوع غريب لم أرَهُ من قبل، لكني تذكَّرت على الفور أنها سجائري الجديدة التي أصبحت أدخنها منذ ثلاثة أعوام أو أربعة.
رفعت رأسي من فوق المطفأة فرأيت رجلًا لم أرَهُ من قبلُ أبدًا، كان عاريًا إلا من ثوب حريري مفتوح يطلُّ منه صدر مشعر، وفخذان مشعرتان. بين الصدر والفخذين سروال مخطط ضيق ملتصق باللحم. رفعت عيني المذهولتين إلى وجهه، الآن فقط أدركتُ أنني رأيته من قبل، ظلت عيناي في عينيه لحظة وابتسمت ابتسامة غريبة تلقائية، وخاطفة في سرعتها كسرعة الضوء، أو كسرعة التيار الكهربائي، لا تترك وراءها إلا نوعًا عجيبًا من الحيرة؛ كحيرة الإنسان الأزلية في بحثه عن الله أو السعادة. لماذا يحدث ذلك الخلل في الكون وفي جسدي في تلك اللحظة بالذات، مع أن عينيَّ تلتقيان بمئات العيون أو الآلاف كل يوم؟! ويظل الكون كما هو ويظل جسدي كما هو كحيرة الإنسان الأزلية، لكنها سرعان ما تنتهي ويعود الكون إلى ما كان عليه، ويعود جسدي إلى ما كان عليه، وتمضي الحياة ككل يوم، ثلاثة أعوام أو أربعة منذ رأيته لأول مرة، وأكاد أنساه تمامًا في زحمة العمل والبيت والناس.
هبطت عيناي مرة أخرى إلى جسده العاري وفخذيه المشعرتين، وجهي وأنا أنظر إلى جسده ليس هو وجهي وأنا أنظر في عينيه، مشكلتي أن ما أحسه في أعماقي يظهر فوق وجهي على الفور. عيناه هما الجزء الوحيد من جسده الذي أرتبط به ارتباطًا حقيقيًّا. وتتبدد الغرابة والوحشة، وتصبح علاقتي به علاقة حقيقية وسط عديد من العلاقات غير الحقيقية. ثلاث سنوات — ربما أربع — وفي كل مرة ألتقي به صدفة في شارع أو مكتب أو ممر، أتوقف لحظة لأندهش وأتحير، ثم أسير في طريقي وأنا أعلم أنها علاقة شديدة الغرابة، لكنها في الوقت نفسه مألوفة ومقبولة وسط عديد من العلاقات غير المقبولة.
وحينما أصبحنا نلتقي بصفة منتظمة أو شبه منتظمة، لم تكن علاقتي به تمتد إلى أجزاء أخرى من جسده غير عينيه، ساعات طويلة نجلسها ونتحدث، دون أن تتحول عيناي عن عينيه، نوع من لقاء العقل له متعة، ولكن تظل المتعة ينقصها شيء، ما هو هذا الشيء؟
قلت لنفسي: ربما هي رغبة الجسد في لقاء الجسد؟ ولِمَ لا؟ أليس هو في النهاية رجلًا وأنا امرأة؟ وبدت لي الفكرة جديدة — بل وغريبة — وتملَّكني استطلاع رهيب. ترى ماذا يكون لقاء جسدي بجسده؟ رغبة استطلاعية عنيفة قد تكون أحيانًا أعنف من رغبة الحب، وقد تدفعني أحيانًا إلى لقاء بغير حب لمجرد إشباع الاستطلاع، وفي كل مرة أشعر بالنفور، ويتأكد عقلي من أن جسدي ينفر من جسد الرجل إلا في حالة واحدة، هي حالة الحب.
كنت أعرف سبب النفور؛ فهو نفور طبيعي لا علاقة له بالجسد وإنما له علاقة بالتاريخ، بقدر ما عَبَدَ الرجل ذكورته بقدر ما نفرت منه المرأة. نفور النساء هو الوجه الآخر لعبادة الإله الذَّكَر. ولم تكن من قوة في العالم تزيل نفور المرأة إلا أن ينتصر الحب على الإله الذكر، ويعود التاريخ إلى ما قبل ستة آلاف عام، حين كانت الإلهة أنثى. أينتصر الحب؟ وهل تكون العلاقة بيننا حبًّا؟ لم أكن أعرف. لم يكن عندي دليل، وهل للحب دليل؟ تلك الرغبة التي تطفو أحيانًا على سطح حياتي المزدحمة في أن أنظر في عينيه؛ كمن يذهب من حين إلى حين إلى عين ماء مقدسة، يركع ويصلي ثم يعود، لم أكن أركع ولا أصلي، ولا أعترف بإله غير عقلي داخل رأسي، ما الذي كان يشدني إلى عينيه؟
أيكون الحب أسطورة كأسطورة آدم وحواء وسندريلا والعنقاء والشاطر حسن؟ كل الأساطير انتهت وسقط عنها القناع، أقنعة كثيرة سقطت أمام عقلي وهو يكبر، وعند سقوط كل قناع أبكي بالليل حزنًا على الوهم الجميل الذي ضاع، لكني في الصباح أرى عينيَّ لامعتين غسلتْهما الدموع كما يغسل الندَى الزهرَ والياسمين والورد. وأترك المرآة وأمشي فوق القناع الساقط على الأرض، وأدوس عليه بقوة جديدة تزيد عن قوة الأمس.
ملأ لي الكأس العاشر أو العشرين، اهتزت يدي قليلًا وأنا أُمسك الكأس، لكن الإله داخل رأسي جالس ثابت لا يتحرك كأبي الهول، وعيناي لا تزالان في عينيه لا تتحولان عنهما، بالرغم من أنني أدركت — من حيث لا أعلم — تمامًا أنه لم يعُد مرتديًا الثوب الحريري، ويبدو أيضًا أنه لم يعُد مرتديًا السروال الضيق المخطط.
لاحظت أن جسده أبيض مشرَّب بحمرة، يوحي بقوة ونضارة، ونظافة يومية، وحسن تغذية، ولا بد أن عينيَّ كانتا لا تزالان شاخصتين إلى عينيه؛ لأنني أدركت بعد لحظة أنه أمسك رأسي بيده وحركه بحيث تسقط عيني فوق جسده.
وتأملته مرة أخرى بعينين سليمتَيِ النظر ٦/ ٦، ورأيت مرة أخرى القوة والنضارة والنظافة والتغذية الحسنة، وكدت أعبِّر له عن رأيي فيما أراه من حيث النضارة والقوة والنظافة والتغذية الحسنة.
لكن عينيَّ ارتفعتا والتقتا بعينيه، ولم أعرف هل كان ينظر إليَّ بدهشة، أم أن الدهشة كانت في عيني أنا، وقلت لنفسي: لا بد أنه موقف يدعو إلى الدهشة؛ فالساعة جاوزت الثالثة صباحًا، وزجاجة الخمر فرغت، والبيت ليس فيه أحد، والعالم من الخارج صامت مظلم ميت ساقط ليس في العدَم، فما الذي يَحول بين جسدي وجسده؟!
حينما حرَّكت رأسي ناحيتَه رأيتُه جالسًا مرتديًا الثوب وحزام الثواب مربوط بعناية حول خصره، يخفي صدره وفخذيه، ولم أعُد أرى منه إلا رأسه وعنقه وقدميه داخل خُفٍّ منزلي خفيف. وجهه من الجانب مرهق، كأنما أُرهق أو شاخ فجأة، وتهدَّلت بعض الشيء ملامحه كطفل يريد أن ينام بعد أن أعياه السهر. امتدت يدي كيد الأم تَرْبِت على وجه الطفل (طفلها)، وقبلة أمومية حانية فوق جبهته.
خرجت إلى الشارع، أرفع وجهي الساخن لنسمة الفجر الباردة الرطبة، إحساس خفي بالزهو يمتزج بإحساس غريب بالحزن. وضعت رأسي على وسادتي، عيناي مفتوحتان مبلَّلتان بدموع، عقلي ينتصر على الخمر، حتى أسلم رأسي للوسادة فتغلب الخمر وينتصر الحزن على الزهو.
حينما فتحت عيني في اليوم التالي كانت الخمر قد تبددت، وانقشعت عن عيني الغشاوة، نظرت في المرآة إلى عينيَّ اللامعتين المغسولتين بالدموع. كدت أترك المرآة ككل مرة وأدوس على القناع الساقط تحت قدمي، وأمشي فوقه بقوة جديدة، لكني لم أتحرك من مكاني. انثنى جسدي والتقطت القناع من فوق الأرض، ووضعته مرة أخرى على وجهي.