اعتراف رجولي
املئي لي كأسًا أخرى من الخمر مع كثير من الثلج، ودعيني أتكلم ولا تقاطعيني. يمكنك من حين إلى حين أن تمري بيدك فوق رأسي أو عنقي أو صدري أو ما تشائين من جسدي، بشرط ألا تعطليني عن الكلام؛ فأنا الليلة جئت إليك لأعترف لكِ بكل ما لا يمكن أن أعترف به لأحد، ولو كان هو مندوب الله على الأرض.
أنا في الحقيقة لا أومن بهؤلاء المندوبين، وأشعر بكراهية لأي وسيط بيني وبين الله، ليس معنى ذلك أنني متكبر أو متغطرس أو أتعامل مع الناس بعنجهية، العكس هو الصحيح؛ فأنا متواضع رحيم، أشفق على كل الناس، وأشفق على نفسي كواحد من هؤلاء الناس.
إن شفقتي على نفسي ليس لها حدود؛ لأنني أحب نفسي، وأعترف لكِ أن حبي الحقيقي الوحيد هو حبي لنفسي، وقعت في حبي لنفسي منذ ولدتني أمي، ولمعت عيناها وهي تقول لأبي: إنه ذَكَر. أحببت ذكورتي، وأدركت منذ البداية أنها سبب تميزي، وكان عليَّ دائمًا أن أُثبت وجودها، وأعلن عنها، وأبرزها للناس؛ لتكون واضحة ومرئية، وثابتة ثبوتًا لا يقبل الشك.
ذات يوم، وأنا طفل صغير، كنت أقف إلى جوار أبي في الشارع، فإذا بقدم كبيرة ضخمة تدوس على إصبعي، وصرخت من الألم: «أي!»، ونظر إليَّ أبي في امتعاض، وقال بغلظة: «الرجل لا يقول «أي» أبدًا.» ومنذ ذلك اليوم لم أقل «أي» أبدًا. كنت أحسس الألم والدموع حين أتألم أو يضربني أحد، وأشد عضلات ظهري وعنقي، وأقول لنفسي: أنا رجل.
وذات مرة أخذ الطبيب يعبث بمشرطه الحاد في بطن قدمي ليخرج منه قطعة زجاج، وشعرت بلحمي يتمزق والدم يسيل، وغرقت من شدة الألم في بحر من العرق، ولم أنطق «أي». وفي تلك الليلة بعد أن نمت ونام الجميع، وجدتني أبكي في الحلم وأهمس لنفسي بصوت خافت: «أي! أي!» حتى الصباح.
وحين استيقظ الجميع واستيقظت، شددت عضلات ظهري وعنقي، وارتديت ذكورتي، وسرت مزهوًّا بها، أقول لنفسي: «أنا رجل!» ماذا تقولين يا سيدتي؟ قدمي ناعمة وأصابعي ناعمة كأصابعك. هذا صحيح؛ فأنا أنتمي إلى الطبقة المستريحة، بورجوازي بمعنًى آخر، ولا أستخدم أصابعي إلا في الإمساك بكأس من الخمر، أو التوقيع باسمي على بعض الأوراق في المكتب، أو التلويح بيدي للأصدقاء. أصدقائي كثيرون كما تعرفين، وأنا أحبهم جميعًا كما أحب كل الناس؛ أي إنني لا أحب أحدًا. ليس معنى ذلك أنني أكرههم، ولكني مشغول دائمًا، ومستغرق دائمًا في حب نفسي، وأنا مستعد في أي وقت للدفاع عن نفسي وبأية وسيلة، وإن كانت جريمة قتل.
لا تنظري إليَّ هكذا كأنَّما أنا المجرم الوحيد على الأرض، الجريمة في حياتنا نحن الرجال ضرورة، إنها الوسيلة الممكنة الوحيدة ليثبت الرجل منا أنه رجل. ولأن الجريمة تحتاج إلى جرأة أو سلطة فأنا عاجز دائمًا عن أن أكون مجرمًا، وليس أمامي إلا أحلام اليقظة، وتخيل نفسي بطلًا مغوارًا أفصل الرءوس عن الأجساد بخبطة سريعة من سيفي. نحن الرجال نُعْجَب بالقتلة إعجابًا شديدًا، والرجل منا لا يمكن أن يعجب برجل آخر دون أن يكرهه، وهذا هو سبب الانقباض النفسي الذي أشعر به وأنا بين الرجال المهمين من ذوي السلطة؛ ولهذا أنا أهرب من مجالس الرجال المحترمين وأشعر براحة نفسية في مجالس الرجال غير المحترمين، ولكني بصفة عامة أفضِّل مجالس النساء؛ فالمرأة مهما ارتفع شأنها تظل لي ميزة عليها وهي ذكورتي، ماذا تقولين؟ أرجوك لا تقاطعيني واملئي لي كأسًا أخرى من الخمر مع كثير من الثلج، ودعيني أتخفف من جرائمي التي تُثقل قلبي.
لا أكذب عليك، جرائمي كلها إنسانية؛ لأن لها هدفًا واحدًا هو إثبات أنني رجل، ولا يمكن للرجل منا أن يُثبت رجولته إلا بانتصاره على الرجال الآخرين. وهكذا لم يكن لي مفر من الدخول في الصراع الأبدي، الصراع مع أي رجل غيري، في حجرة الاجتماعات أو في حجرة النوم سِيَّان؛ فالصراع واحد لا يتغير، ولأنني في حجرة الاجتماعات أفتقد الجرأة والسلطة فلم يكن أمامي إلا حجرات النوم، لا تقولي عني: إنني ذئب أو صياد نساء؛ فأنا رجل متزوج، أحب زوجتي كما أحببت أمي. هذا النوع من الحب الروحي المقدس؛ أي الحب الذي آخذ منه كل شيء ولا أعطي شيئًا، وهذا هو الحب المثالي. زوجتي هي الشخص الوحيد (وقبلها كانت أمي) التي أستطيع أن أغضب معها، وأشخط فيها بحرية؛ والسبب معروف فهي لا تستطيع أن ترد عليَّ غضبي بغضب مماثل. نحن الرجال لا نستطيع أن نعلن عن غضبنا أمام هؤلاء الذين يستطيعون الغضب منا. لم أغضب أبدًا أمام رئيسي، ولكني أغضب بسرعة أمام أمي. أما مع زوجتي فأنا أغضب وأشخط بحرية، وكذلك أغضب بكل حرية مع أولادي؛ هؤلاء جميعًا أنا أعولهم وأطعمهم، وإن غضبوا مني فلن يجدوا بديلًا لي.
وهذا هو هدف الزواج؛ فكيف كان يمكن للرجال بغير الزواج أن ينفِّسوا عن غضبهم؟ إن أفقر رجل في أحط طبقة اجتماعية يعود في النهاية إلى زوجته ليغضب وليشعر أنه رجل، ماذا تقولين يا عزيزتي؟
رفضتِ أن تتزوجي لهذا السبب، أنتِ امرأة ذكية، لا أظن أن الذكاء وحده هو الذي يجذبني إلى فراشك من دون نساء الأرض، لماذا أنت بالذات أعترف لك كما يعترف العبد أمام الإله؟ لماذا أتسلل من فراش زوجتي كل ليلة لآتي إليك؟ لا أكذب عليك، ليس هو الحب؛ فأنا — كما ذكرت لكِ — قد وقعت في حب نفسي منذ البداية وانتهى الأمر.
السبب يا عزيزتي هو أنكِ الشخص الوحيد الذي لستُ مضطرًا لأن أثبتَ له أنني رجل، هذا السبب لم يكن واضحًا لي أول الأمر، وكنت أتساءل دائمًا بيني وبين نفسي: ما الذي يربطني بهذه المرأة؟ وكنت أتساءل دائمًا: لماذا أحتاج إليها هذه الحاجة الشديدة؟ وقد عرفت السبب في تلك الليلة، أتذكرين؟ الليلة التي جئت إليك بعد هزيمة ساحقة أمام منافسي في الانتخابات ومشادة عنيفة مع زوجتي حين رأيتها عارية بين ذراعي صديقي. جئت إليكِ وبكيت بين ذراعيك وأحسست وأنا أبكي أن هذه الدموع محبوسة داخلي كالبخار المضغوط منذ نهرني أبي وأنا طفل وقال لي: الرجل لا يقول «أي» أبدًا. تلك الليلة رأيت دموعي تنهمر كالنهر، وسمعت صوتي يهتف «أي» عشرات المرات، مِئات المرات، وحين أفقت وجدت رأسي عند قدميك جاثيًا في محرابك كما يجثو الإنسان في معبد الإله. ماذا تقولين يا عزيزتي؟ رأيتِ على وجهي أول ابتسامة حقيقية؟ قلتُ لكِ إنها أسعد ليلة في حياتي؟ هذا صحيح، لقد اكتشفت لأول مرة في حياتي أني كنت أبله، إنني كدت — وأنا صبي — أن أفقدَ عينًا من عينيَّ في معركة صبيانية لأثبت أنني رجل، إنني وأنا شاب كدت أفقد حياتي عدة مرات بسبب استعدادي الدائم للمبارزة، إنني وأنا كهل كدت أن أفقد قواي العقلية بسبب انهزامي أمام منافسي، ثم خيانة زوجتي لي. كل شيء في تلك الليلة تغير، وسقط القناع المزيف الذي سمَّوْه الرجولة، وبدأت أرى نفسي على حقيقتها، وأكتشف لأول مرة أنني لست مضطرًا لأن أثبت لنفسي أو لغيري أنني رجل، فما معنى كلمة رجل؟ وكان هذا الاكتشاف هو أسعد لحظة في حياتي. من شدة سعادتي أخذت أقبِّلك وألثمك وألثم قدميك، وأمرغ أنفي ببطن قدميك وأبكي، وأستعذب طعم دموعي ووضعي السفلي تحت قدميك، ماذا تقولين؟ اعترفت لكِ بحبي في تلك الليلة، نعم يا عزيزتي قلت لكِ: إنني أحبك، ولكني أعترف لكِ أنني بمجرد أن خرجت من عندك وعدت إلى بيتي ومكتبي شعرت بالخجل من نفسي، فخجلت حين تذكرت أنني كشفت أمامك عن الجزء المكبوت من نفسي، الجزء الأنثوي، الجزء الذي يخفيه كل الرجال عن الأعين كالعورة. ومن شدة الخجل قررت بيني وبين نفسي ألا أراك مرة أخرى، ولكن عدت إليك في الليلة التالية والتي تلتها وكل الليالي بغير انقطاع. أعرف أنني مشدود إليك بقوة رغبتي في ألا أكون رجلًا وأن أكون نفسي كما هي، ولكني مشدود أيضًا إلى ذلك العالم الذكوري المزيف، أضع فيه القناع، وآخذ مكاني في الصف، وألعب دوري. أضرب ضربتي حين لا يملك الآخر ضربي، وأتلقى الضربة من الواقف فوقي دون أن أرد، وأكتم غضبي حتى أعود إلى زوجتي، وأحبس دموعي حتى أجيء إليك. إنها قسمة عادلة يا عزيزتي؛ فالرجل منا يحتاج إلى امرأتين على الأقل: امرأة يستطيع أن يغضب أمامها وامرأة يبكي في حِجْرِها، ماذا تقولين يا عزيزتي؟ نعم، زوجتي تحبني، وهي تخونني من شدة حبها لي. لم أكن مقتنعًا بهذه الحقيقة ولكني اقتنعت بها، وتعلقت بزوجتي واشتهيتها أكثر وأكثر، نعم، اشتهيتها أكثر يا عزيزتي؛ لأنني عن طريقها اكتشفت شيئًا جديدًا لم يكن في إمكاني اكتشافه، اكتشفت أنني لست الرجل الوحيد على الأرض. أعترف لكِ أنني شعرت براحة شديدة لهذا الاكتشاف، راحة الاستسلام للحقيقة التي كنت عاجزًا عن الاستسلام لها، رائحة لو ذاقها الرجال مرة واحدة لدفعوا زوجاتهم إلى خيانتهم بأسرع ما يمكن. كم ضيعت من السنين وأنا أفتقد هذه الراحة يا عزيزتي.
ماذا تقولين؟ أنا تأخرت جدًّا، نعم نعم، ولكني أكثر حظًّا من غيري، هناك رجل يموت وهو لا يزال متصورًا أنه الرجل الوحيد على الأرض.
ماذا تقولين؟ المرأة تعرف هذه الحقيقة منذ البداية، نعم يا عزيزتي، المرأة أذكى من الرجل؛ إنها تعلم دائمًا أنها ليست المرأة الوحيدة على الأرض. املئي لي كأسًا أخرى مع كثير من الثلج، ودعيني أموت بين ذراعيك ولا تقاطعيني.