رسالة خاصَّة إلى صديق فنَّان
ما دمت قد فتحت قلبك وعاتبتني ذلك العتاب القاسي إلى حد الرقة، والذي أبكتني رقته أكثر مما أبكتني قسوته؛ ما دمت قد فعلت ذلك، فقد أصبح من حقي أن أعاتبك عتاب فنانة لفنان، وصديقة لصديق حميم. لم يكن الشعور الحميم بينهما إلا إحساسًا عميقًا مستقرًّا في أغوار النفس، رقيقًا وشفافًا شفافية الهواء النقي، بقدر ما نحسه في العمق كبيرًا يكاد يملأنا بقدر ما نعجِز عن الإمساك به في لحظة حقيقية واحدة. ويبدو أن هذه هي الصفة الوحيدة للشعور الحميم الحقيقي، إنه بقدر ما يكون حقيقيًّا يبدو لنا كالحلم.
ما دمت قد فعلت بي كل ذلك فاسمح لي أن أعاتبك، وأنا لم أعاتب أحدًا من قبل، حتى أبي وأمي لم أعاتبهما؛ لأنهما أتيا بي بغير إرادتي، حتى الله لا أعاتبه لأنه يأخذني بغير إرادتي، لا أعاتب أحدًا؛ لا رجلًا ولا امرأة ولا إلهًا، ولا أعاتب في الحب ولا في الكراهية، وكم من أذًى أصابني من الحب أكثر مما أصابني من الكراهية.
ولكنك أصبحتِ أحد هؤلاء القلائل النادرين في حياتي، الذين حين أمسك القلم فأنا لا أكتب ليقرأ الناس، ولكني أكتب لشخص واحد بالذات؛ ليقرأ هو وحده دون جميع الناس، وبغير أن يكون هناك ناس على الإطلاق.
شيء عميق وخاص شديد الخصوصية أعجِز أحيانًا عن أن أكتبَه لنفسي لو حاولت؛ كالجرح العميق الغائر في الجسد، كالبئر السحيقة وأنا فيها ساقطة حتى القاع، حتى النخاع، أحس الألم في عظام رأسي. أهو قدري أن أكون شيئًا آخر غير ما أراده لي القدر، أن لا أكونَ أنثى (بمفهوم العالم للأنثى)، وأن لا أكون طبيبة (حسب تخرجي في كلية الطب)؟ أهو قدري أن أكون إنسانة قبل أن أكون أنثى، وأن أكون فنانة قبل أن أكون طبيبة؟
منذ وُلِدت وصراعي أحسه كأنه صراع مع القدَر ذاته، لكني أدرك بإحساس آخر أن القدَر معي، وأن القدر هو الذي أرادني فنانة وأرادني إنسانة، فما هي القوة الأخرى إذن التي أرادتني أنثى وطبيبة؟ أهناك قدر آخر غير القدر الذي نعرفه؟
وعشت سنوات حياتي كالمشدود بين قدَرين؛ كقطعة اللحم ممسوكة بين فكين ضاريين. أحاول الإفلات والهرب، وأظن أحيانًا أنني هربت وأنني أُنقذت، وأتنفس بعمق وأنا أُمسك القلم لأسكب نفسي فوق الورق صدقًا بديهيًّا بداهة الموت، بسيطًا كابتسامة تلقائية في وجه طفل. وأظن بسذاجة طفل أنني لم أفعل شيئًا ذا بال، حتى الكلمات فوق الورق تبدو لي قليلة أقل من نفسي وأضعف، لكن العالم من حولي ينتفض ذعرًا، كأنما الصدق لم يعُد كلمة وإنما وحش مفترس، والحقيقة أصبحت كالموت أو أكثر من الموت.
وهل هناك ما هو أكثر من الموت في حياتنا؟ أم أن حياتنا نفسها قد تصبح أحيانًا أكثر من الموت؟ كنت أسأل نفسي هذا السؤال فلم أعرف له إجابة في حياتي أو في موتي، ولم أكن أعرف في معظم الأحيان الفارق بين أن أحيا أو أموت، وحياتي تبدو لي أحيانًا كالموت، والموت يصبح في عيني فجأة كالأمل الوحيد في أن أحيا.
ألم عميق يصل إلى أعمق مما يمكن أن يصل إليه أي سكين. وأتلفَّت حولي كأنما أبحث عن آخرين مثلي يحملون السكين في أجسادهم، كأنما أبحث عن شخص واحد غيري يقول لي: نعم، أنت على حق والعالم مخطئ، أنتِ تقولين الصدق والعالم يكذب.
نادرون جدًّا هؤلاء، ندرة الكلمة الصادقة تضيع بين السماء والأرض؛ كقطرة ماء تضيع في بحر، كخفقة قلب، حقيقة تضيع في أغوار الصدر فلا يعثر الواحد منا عليها لو أراد. وكم من مرة يخفق القلب خفقة حقيقية واحدة وسط ملايين الدقات والضربات. في كل دقيقة يدق القلب سبعين دقة (في المتوسط)، وفي الساعة الواحدة أربعة آلاف، وفي الشهر الواحد ثلاثة ملايين، فكم يمكن أن يدق القلب في سنوات عمرنا؟ وهل يمكن لأحد فينا أن يعرف خفقة القلب الحقيقية من بين بلايين الدقات؟ بل إنه لو عرف فهل هو يمسك بها حتى لو أراد؟
كنت أدرك بعقل آخر غير ذلك علموني به أن حجم حياتي ليست هي عدد السنوات بين تاريخ ولادتي ووفاتي، كنت أدرك عن يقين أن هناك نبضًا غير نبض القلب، وأن حجم حياتي كلها قد لا يكون إلا خفقة حقيقية واحدة أنجح في الإمساك بها من بين ملايين الخفقات غير الحقيقية، أو كلمة صدق تلقائية أنجح في الإمساك بها فوق الورق من بين ملايين الكلمات غير التلقائية.
عن يقين كنت أدرك هذه الحقيقة، أدركها بعقلي وجسدي، بالاثنين معًا أدركها، وبالحواس التي أملكها ولا أملكها، ومع ذلك كم كان هذا اليقين الهائل يتحول أحيانًا إلى شك هائل لا يتسرب إليه شك؛ فيصبح هو اليقين وما عداه هو الشك. هذه اللحظات أحس أنني مقتولة جسدًا وعقلًا، وأنني مخطئة والعالم هو الصواب. وقد أرى نفسي وأنا سائرة في الشارع أو راكبة سيارتي، لكني أدرك عن يقين أنني مقتولة، وأن جسدي الذي يتحرَّك هذا ليس هو جسدي الحقيقي؛ فقد أخفى القتلة جسدي في حفرة في بطن الأرض، وأرى جسدي غير الحقيقي يتحرك أمامي، وقد يصافح الناس، وقد يبتسم، وقد ينافق العالم ويقول له إنه على صواب وأنا المخطئة.
كيف كنت أشد جسدي المقتول من بطن الأرض؟ كيف كنت أشد يدي شبه المشلولة وأمسك القلم؟ لم أعرف، لكنها لحظة واحدة، وقد أكون جالسة أو واقفة أو راقدة، وقد أكون وحدي أو وسط ناس آخرين، لكني أبصر جسدي ينتفض وحده فجأة، فإذا بي أقف إذا كنت جالسة، أو أجلس إذا كنت واقفة، وإذا بي أجري بعيدًا عن الناس إذا كنت مع الناس، أو أجري إلى الناس إذا كنت وحدي.
كانتفاضة الرعب، كمن يرى الموت وجهًا لوجه. وأكتشف لدهشتي الشديدة أن جسدي يرتعد فعلًا، وصوتي يرتعد، لكنها ليست إلا لحظة خاطفة، كالصرخة الواحدة أطلقها في وجه المتكلم ليصمت أو في وجه الصامت لينطق.
كان المتكلم في لحظة من تلك اللحظات مسئولًا كبيرًا يرأسني في عملي الطبي. واحد من الرجال الذين يمتلئ بهم العالم. طبيب يقيس نجاحه الطبي بمساحة الأرض التي يمتلكها فوق الكرة الأرضية. رجل كذكور العالم لا يعرف من المرأة إلا الأنثى. وأراد أن يعاملني كما يعامل العالم لكني رفضت، الرفض عندي كان سهلًا طبيعيًّا؛ فأنا بالطبيعة إنسانة ولست أنثى، وأنا بالطبيعة فنانة ولست طبيبة، الرفض عندي كان سهلًا وطبيعيًّا كهواء أتنفسه، لكن الرفض عنده كان صعبًا أصعب من الموت.
دائمًا كنت أتحير لماذا يعجِز الرجال في هذا العالم عن تحمُّل الرفض، وبالذات رفض المرأة لهم؟ أرى وجه الواحد منهم وقد شحب وهرب منه الدم؛ فأصبح لونه أبيض كوجه الميت، هل كان هذا الرفض يكشف له عن حقيقة وجهه، ويدرك لأول مرة أنه وجه ميت، أم أنه كان مرفوضًا داخل نفسه أيضًا فإذا به عاجز عن احتمال الرفضين معًا؟
وقال لي بلهجة الرؤساء إن موظفًا لم يخالفه أبدًا، وإن امرأة لم تعصِهِ من قبل. وفتح لي درج مكتبه الفاخر، وأخرج شهادات تفوقه وبطولاته ونياشين انتصاراته، وجدران حجرته تغطيها إطارات مذهبة داخلَها شهادات وشهادات من مصر والخارج. وكان الدم قد عاد إلى وجهه فلم يعد أبيض، ورأسه أصبح يرفعه عاليًا فوق عنق صغير تحوطه ربطة عنق كبيرة (على الطراز الأمريكي الحديث) وصدره منتفخ بعضلات ظهر مشدودة، يحاول أن يشدَّها بمشقة وجهد، فكأنما هو عاجز عن إقناع عضلات جسده بانتصاراته الخارجية العديدة، وأنه منهزم من الداخل هزيمة لا يعرفها أحد.
وربما هو رأى أو أحس أنني الوحيدة التي شهدت هزيمته، ولأنني امرأة فقد أصبحتْ هزيمته مضاعفة، وتحوَّل الرضا عنده إلى غضب، والإقبال إلى نفور، والرغبة في ترشيحي إلى الترقية ورفعي إلى السماء السابعة إلى الرغبة في دفني في بطن الأرض وإغلاق الحفرة بالشمع الأحمر.
لم تكن المرة الأولى التي أشهد فيها هزيمة رجل؛ فالرجال كثيرون، وعدد الهزائم أكثر من عدد الرجال، ولست في نهاية الأمر إلا امرأة واحدة، لكني كنت أدرك أنني رغم كوني امرأة ورغم كوني واحدة؛ فإن من بين هؤلاء الرجال الكثيرين المتكاثرين هناك رجل واحد على الأقل لم يُهْزَم، وأنني في كل خطوة فوق الأرض، أو في كل حركة أو لفتة، وإن كانت مجرد تحرك الرأس لحظة وأنا أمشي في أي شارع، أنني كنت بوعي وبغير وعي، بإرادتي وبغير إرادتي، بجسدي وعقلي، بالاثنين معًا — أدرك أنني أبحث عن هذا الرجل، وأدرك أيضًا أنه ليس واحدًا، وأنه قد يكون هناك اثنان أو ثلاثة أو أربعة، ربما لا يزيد عددهم عن عدد أصابع اليد الواحدة، لكنهم هناك رغم ندرتهم، وطالما أنهم هناك فلا بد أني عاثرة عليهم.
لمحتك مرة وأنا أمشي مسرعة كعادتي، وكنت غاضبة من ذلك الرئيس، وحين أغضب فإني أمشي بسرعة أكثر. يكشف لي الغضب عن أنني أسير نحو معركة جديدة، وأنني يجب ألا أضيِّع وقتًا في الطريق؛ فالدقيقة من حياتي أصبح لها ثمن، والإحساس بحركة الزمن يصبح عندي طاغيًا إلى حدِّ الجري في الطريق. أخاف أن يبلَغني الموت قبل أن أخوضَ معركتي، وكأنما هي المعركة الأخيرة في حياتي وبعدها سأموت، ولأنني في الأصل ميتة فأنا لا أخاف الموت، ولأنني لا أخاف الموت فإن الناس تخافني، وهذا هو السبب الوحيد الذي يخرجني من بعد كل معركة حية وباقية فوق ظهر الأرض.
سألتَني في هذا اليوم عن غضبي فحكيت لك، لم أكن أحكي لأحد، لم أكن أعرف ماذا أقول، ولم أكن أستطيع لو عرفت، وما كان لأحد أن يسمعني أو يصدقني لو أنا قلت، فماذا كنت أقول؟ هل أقول إن العالم كله مخطئ وأنا وحدي على صواب؟ هل أقول إن العالم هو المجنون وأنا وحدي العاقلة؟ هل أقول إنني منذ وُلِدت وأنا أحس الحروف تمشي في جسدي كدورة الدم، وأنني حين أمسك القلم يتلاشى العالم كله وتتلاشى لذة الأكل ولذة الحب ولذة الجنس ولذة الموت، وأفنى في السطر كما أفنى في الحب كما أفنى في الموت، وأدرك مع كل ذلك أنني لا أفنى في شيء؟ هل أقول إن الفن كان اختياري وإرادتي لكني بالصدفة كنت أنثى، وأنني أرفض منذ الطفولة أنوثتي لأنها ليست أنا، وليست من صنعي، وإنما هي من صنع عالم مليء بالذكور وخالٍ من الرجال؟ هل أقول إنني أخوض حياتي بقليل من العقل وكثير من الحب وأنني لا أمجد العقل رغم شهادتي الطبية؛ فالذي يصنع عقولنا هو العالم من حولنا، ولأن العالم مزيف تصبح عقولنا مزيفة، وفي ثورتنا في العالم لا بد أن نثور على عقولنا. أأقول كل هذا؟ وإذا قلته فهل يصدقني أحد؟
في ذلك اليوم قلتَ لي إنك تصدقني، ودُهشت إلى حدِّ عدم التصديق، إلى حد الجمود في مقعدي وأنا جالسة أمامك، وكنت أريد أن أبقى قليلًا لكني وقفت وخرجت. لا أذكر لماذا خرجت، ربما دخل شخص آخر، ربما دق جرس التليفون أو الباب، المهم أنني خرجت ولم نلتقِ بعد هذا اليوم إلا نادرًا. أحيانًا ألمحك صدفة في طريق تسير بسرعة، وأنا أيضًا أسير بسرعة، أحيانًا ألمح كلماتك فوق صفحة؛ فأقف عندها وأتذكر، أو ألمح وجهك بين الوجوه فأرفع عيني فجأة، وقد أحييك من بعيد إذا لمحتني، وإذا لم تلمحني استدرت وسرت بسرعة. رغم خطوتي السريعة كنت أحس أن شيئًا من نفسك قد أصبح معي إلى الأبد، وأسأل نفسي أتراه هو أيضًا يحس أنني أعطيته من نفسي في لحظة مضت ولن أسترجعَها، وأحيانًا كنت أركب عربتي لآتي إليك لكني أتوقف وأسأل نفسي ماذا سأقول له، وهل هو يذكر ما حدث بيننا؟ وهل حدث شيء يمكن له أن يذكره؟
لم أكن أعرف هل حدث شيء؟ وإذا كان قد حدث فما هو؟ وهل هو شيء يمكن للذاكرة أن تمسكه كدليل، كشيء أبرر به ذهابي إليه لو أنا ذهبت، كسبب واحد أستطيع أن أحوِّله إلى كلمات تنطق لو هو سألني لماذا جئتِ؟
كم سنة مرت دون أن آتيَ إليك، لا أعلم فأنا لا أقيس الزمن بالسنوات، وعمري كله قد لا يساوي في نظري لحظة واحدة أحسها بعقلي وجسدي وبكل طاقتي المخزونة من عقلي وجسدي. كنت أدرك الزمن بالسنوات، وعمري كله قد لا يساوي في نظري لحظة واحدة أحسها بعقلي وجسدي وبكل طاقتي المخزونة من عقلي وجسدي. كنت أدرك دائمًا أن ما عندي من حواس ليس هو كل ما عندي، وأنه هناك تحت السطح نبض آخر غير نبض القلب، وعقل آخر تحت العقل، وجسد آخر تحت الجسد. أهناك امرأة كاملة أخرى داخلي؟ وأيهما أنا؟ أيهما الحقيقة وأيهما اللاحقيقة؟ كنت أحس دائمًا أن بين الحقيقة واللاحقيقة مسافة قد لا تكون إلا شعرة، لكني أحاول — على الدوام — أن أقطعَها لأقتحم ذلك المجهول، وكلاهما — المجهول والمعلوم — أحسه كالرهبة داخل جسدي، وقد كسر الطب والتشريح رهبة الجسد في عيني، وكسر الفن رهبة المجهول، وأبحت لنفسي أن أتحدَّث عن جميع أعضاء الجسد كما يتحدَّث الشعراء عن نبض القلب، وأتساءل دائمًا لماذا أصبح نبض القلب هو النبض الوحيد المباح؟
كم سنة مرت دون أن آتيَ إليك، لا أذكر، لكني أذكر أنني في لحظة مفاجئة، في تلك الانتفاضة حين أقطع الشعرة بين المعلوم والمجهول أو بين اليقين والشك، وأدرك أن العلم مخطئ وأنا على صواب، وأهب من حياتي كالممسوسة برغبة مباغتة في الموت، أو أهب من موتي بأمل مفاجئ في الحياة، في لحظة من تلك اللحظات مددت إصبعي في قرص التليفون وأدرت رقمك، ورد عليَّ صوت رجل قال إنك غير موجود؛ فتركت اسمي ورقمي وقلت إنني أنتظر ردًا.
كم سنة مرت وأنا أنتظر، لا أذكر، وما حاولت أن أذكر؛ فقد حزنت وسحق الحزن ذاكرتي فلم أعد أتذكر، وكلما تذكرت حزنت ونسيت إلى أن أصبحت لا أحزن ولا أنسى. وأكاد في كل لحظة أتذكر، وفي كل مرة لا أعرف بالضبط ما الذي أتذكَّره، فليس هناك شيء حدث بيننا يمكن للذاكرة أن تمسك به، وليس هناك دليل ولا سبب ولا مبرر يمكن أن أقوله لو أن أحدًا سألني.
لمحتك مرة من بعيد فتوقفت وتحركت نحوك، لكني استدرت وسرت من جديد بخطوتي السريعة وأنا أسأل نفسي أهو حب أم لا حب؟ وهل يختلط الأمر إلى هذا الحد؟ إلى حد العجز عن الفصل بين الحب واللاحب، إلى حد العجز عن رؤية الأبيض من الأسود، كالعمياء تمامًا، توقفت لحظة لأمسك رأسي بيدي، وأغمض عيني أو أفتحهما، وسألت نفسي أيكون العالم قد سلب من عيني البصر؟ أيكون العالم قد مزَّق أعصاب العين وأعصاب القلب؟
كنت أدرك أن العالم قد مزَّق كل شيء في العالم إلا أنا، ومزق البشر إلى عبيد وأسياد، ومزق الإنسان إلى عقل وجسد، ومزق الجسد إلى أعضاء شريفة وأعضاء غير شريفة. كنت أدرك أن العالم قد مزَّق كل شيء في العالم إلا أنا. مزَّق الرجال ومزق النساء ومزق الأطفال، ومزق الحكام ومزق المحكومين، وليس هناك من فاصل بين التمزق السياسي والتمزق الجنسي، والفنان الصادق يسقط بصدقه في ألاعيب السياسة، ويغرق بفنه في أحابيل الجنس، وكلاهما — الجنس والسياسة — محنة الفن ومحنة الإنسان، لكن الفنان مشدود بفنه إلى صفوف المحكومين تحت أي اسم وفوق أي أرض، ونافر بإنسانيته من أجساد الحكام بأي ثقل وبأي شكل، منجذب بنظرته إلى الجنس تحت وهم أي حب، مشدود إلى العالم بكل ما فيه وما عليه، يدرك أن العالم — عن يقين — سيمزقه، لكنه يدرك، بيقين آخر، أنه أبدًا لن يتمزق.
كم سنة مرت دون أن أذهبَ إليك؟ لكني فتحت الجريدة صدفة مرة؛ فأنا لا أفتح الجرائد في عالم تكذب فيه الأقلام والأجساد. ذلك الصباح لم أعرف لماذا أمسكت بالجريدة؟ ربما كنت أنوي أن أفرش بها أحد رفوف المطبخ، لكني لمحت وجهك، وقرأت كلماتك الدقيقة السوداء، وحروف المطبعة تكاد تشبه خط يدك، وصدق الكلمة فوق الورق له حركة تشبه حركة عينيك وهما تنظران إليَّ. أكنت تراني أمامك وأنت تكتب، لكنك لم ترني منذ سنين طويلة، ولا يمكن لأي ذاكرة مهما قويت أن تحتفظ بشيء حدث منذ سنين طويلة، فما بال الشيء الذي لم يحدث؟
وحين دقَّ جرس التليفون ظننت أن الرنين يأتيني من أي مكان فوق الأرض إلا مكتبك، وحين أتيت إليك كنت أظن أننا سنتبادل بعض كلمات عادية، كتلك المجاملات المألوفة بين المعارف والأصدقاء، لكن كلماتك لم تكن عادية، وعتابك لم يكن مألوفًا. وبقدر ما دُهشت لم أُدهش، وبقدر ما تألمت لم أتألم. وقلت لك إنني حاولت مرة أن ألقاك ولم يأتني الرد، ولم تصدقني، وقلت لي لو أردت أن تأتي لأتيت. وأكدت لك أنني حاولت مرة لكنك لم تصدقني، وقلت لي لو رغبت حقًّا في لقائي لما استطاع أن يَحُول بين لقائنا شيء. كنت شديد القسوة في عدم تصديقك لي … وبقدر ما آلمتْني قسوتك بقدر ما أدهشتني، ولعلك رأيت الدهشة في عيني تشبه الدموع، كنت مندهشة إلى حد البكاء، فهل يمكن بعد كل هذه السنين أن تمسك الذاكرة بشيء لم يحدث؟ أو أنه إذا كان قد حدث فلم يكن إلا لحظة خاطفة كلمعة ضوء ظهرت ثم اختفت، كخفقة قلب دقت مرة واحدة ثم اندثرت بين ملايين الدقات.
وحين أصبحتْ يديك حولَ يدي في المصافحة الأخيرة كنت أدرك أن ستقبِّلني، وأن قبلتك فوق وجهي ستكون حانية ورقيقة إلى حد الشفافية، كقبلة طفل فوق وجه طفل، بريئة وغير بريئة، ككل المشاعر التلقائية.
وأعطيتني رقم تليفونك على قصاصة ورق صغيرة، ووعدك بأن أتصل، وكنت صادقة في وعدي، لكني ما إن خرجت إلى الشارع المزدحم حتى بدا لي كل شيء كالحلم أو كالوهم، وبدا لي العتاب شيئًا عاديًّا يمكن أن يحدث بين أي صديقين يلتقيان بعد غيبة طويلة، وأن القُبلة أيضًا شيء عادي يمكن أن تحدث بين صديقين أو زميلين. وأدركت — وأنا أسير بخطوتي السريعة — أنني سأظل أسير بسرعتي المعهودة حتى أموت وأنا سائرة، وأن سنين أخرى طويلة ستمضي قبل أن أعرف الحقيقة من اللاحقيقة، وأنني في كل مرة أعجِز عن اقتحام الموت، أعجز عن تمزيق الشعرة بين الشَّك واليقين، هل أنا على صواب والعالم مخطئ؟ أم أنا المخطئة والعالم على صواب؟ إذا كنت لا تصدقني هذه المرة فأنا أعاتبك، وإذا كنت تصدقني فإن عتابي لك أشد.