الضفدعة
ولِدَ تسوجي كونيو سنة ١٩٢٥م في طوكيو، وفي جامعتها تلقَّى دروسه في الأدب الفرنسي. بدأ ينشر بعض القصص القصيرة في المجلات الطُّلابية. عيِّن سنة ١٩٥٦م مدرسًا في جامعة باكوشوين، وإلى مهمَّة التدريس أضاف الاهتمام بالنقد الأدبي. ولم تتفتَّق موهبته الروائية إلا في وقت متأخِّر في إحدى إقاماته في أوروبا بين ۱۹۰۷ و١٩٦١م. وترسَّخت قدمه في الكتابة، على امتداد الأحاسيس التي تراكمت لديه وهو يتأمَّل المشاهد الأوروبية، ومنذئذٍ والمدن والأرياف الأوروبية، وقد خلبتْ لُبَّه، تصبح أدواتٍ ممتازةً لتوصيل تيماته الأدبية.
نُشرت قصة الضفدعة سنة ١٩٦٣م، وهي تتميَّز بأسلوبها المُشرق والبسيط الذي يُضفي جمالًا على الحكاية العجائبية.
نُشرت بالفرنسية في سلسلة قصص يابانية، المجلد الثالث، منشورات بيكيبر، باريس، ۱۹۸۸م.
الضفدعة
إذا لم تخُني الذاكرة، ففي شهر أيَّار من إحدى سنوات الخمسينيات نظِّم بحديقة «سو» في الضاحية الجنوبية لباريس معرض متاحف «ليل دي فرانس». وقد عرفنا أنا وزوجتي هذه المناسبة لدى قراءتنا ملصقًا في المترو.
كان يومًا جميلًا، النهار فيه مُشرِق، وأزهار اللَّيلَكِ تسطع بنورٍ حيٍّ وفتَّان، وقصر «سو» بناءٌ جميل منسجم مبنيٌّ على طراز القرن السابع عشر. ومن الصالون المطلِّ على الحديقة، نستطيع أن نرى من الجانب الآخر للغابة الامتداد المُضيء للحوض حيث ينساب الإوزُّ.
عند مدخل الصالون وقعتْ نظراتُ زوجتي على امرأةٍ في سنٍّ ناضجة، ترتدي ثياب الحِداد. في هذه اللحظة، كنتُ قد تقدَّمتُ خطواتٍ نحو الباحة المُشرِفة على الحديقة؛ وحين الْتفتُّ صوبَهَا لاحظتُ زوجتي منهمكةً في نقاشٍ صاخب مع المرأة المفجوعة. لم أتبيَّن شيئًا من مُحتواه.
واقتربتُ من زوجتي موجِّهًا عباراتِ التحيَّة إلى رفيقتها، ومن خلال الخِمار المُسدَل على وجهها؛ ميَّزتُ العينَين الرماديتَين البليلتَين للآنسة دنيس ف — هكذا قدَّمتْها لي زوجتي — وكانت العينان تُرسلان نظرةً مروِّعة، متسائلةً ومحتجَّة في آنٍ واحد.
– تراها فقدتْ أحد أقاربها؟ سألتُ بعد أن غادَرنَا دنيس ف.
– إنَّها دائمًا هكذا، أنا أيضًا سألتُ حين رأيتُها أول مرَّة: على مَن ترتدي ثياب الحداد؟ لكنْ يبدو أنَّ الأمر على خِلاف ما نعتقد. إنَّها تتخيَّل نفسها أرملةً في حين أنها لم تتزوج قَط.
– لعلها فقدتْ صديقها في الحرب.
– على كلٍّ؛ فهي امرأةٌ باردة، جِد باردة، بل يقال إنَّها مجنونةٌ، ولا أحد يكلِّمها. ففي قاعة الدرس، على سبيل المثال، تجلس بمفردها بمنأًى عن الجميع … وحين نغادر القاعة مجتمعين ونحن في حوارٍ مع المدرِّس، تبقى متخلِّفة عنا بضع خطوات. أحيانًا أرثي لها وأُعيرها ما دونتُه من ملاحظاتٍ حين تطلُب منِّي ذلك، إلا أنَّ لديَّ انطباعًا أنَّها تُعيد لي دفتري وسِخًا، كما لو أن رُطوبة يدَيها الباردتَين تسرَّبتْ إلى الدفتر؛ ممَّا لا يشجِّعني على إعارتها إيَّاه من جديد.
وأنا أستمع إلى زوجتي، تذكَّرتُ اتصال يدي باليد الباردة والرطبة لدنيس ف. كنتُ ما أزال أحسُّ بالبرد على جِلدي، هنا حيث لمستْني.
غير أننا ما لبثنا أنْ قطعنا حبلَ الحديث؛ فقد كانت اللوحة العظيمة لبوش أمامنا معلَّقة في نهاية الصالون، وحضورُها قد أحال الجوَّ أكثرَ صفاءً وكثافة. في سماءٍ غريبةٍ وعلى جدارٍ مرسومٍ في الخلف، يُرى أناسٌ مأخوذون في أوضاعٍ للسحر، وهنا مُشعوِذ وبُومة داخل قفَّة معلَّقة بحِزامه، وكلب، ثم ضفدعة على الطاولة، فشيخ متطلِّع إلى أمام؛ ليرى جيدًا.
في هذه اللحظة تمامًا صدَرَ عن زوجتي ما يُشبه الصَّرخة: آه، إنها الضفدعة.
وأشارتْ بإصبعها لا إلى الضفدعة فوق الطاولة، بل إلى أخرى بعينَين مذهبتَين، يُمسك الشيخ المنحني إلى الأمام بفمها المفتوح.
لم أعُد أتذكَّر الكلمات التي تبادلناها في موضوع اللوحة، ولكنِّي ما استطعتُ أن أمحو من ذاكرتي الغرابةَ التي أثارها هذا المشهد الوديع، الإحساس الذي قد نستشعره، على سبيل المثال، حين يختفي الضجيج دفعةً واحدة.
بعد سنتين من هذا، ذهبتُ من جديد لرؤية لوحة بوش في متحف سان جرمان أونلاي؛ ربما لكي أتأكَّد من انطباعي. وقد اتفق أنَّ زوجتي كانت مُنشغِلة في اجتماع؛ ممَّا جعلني أركب الحافلة بمفردي إلى الضاحية بعد ظهيرة هذا اليوم الخريفي المُعتِم والمُمطِر. كانت القاعة التي تضمُّ اللوحة هادئة ومُقفِرة، غير أني لمحتُ امرأةً ترتدي السَّواد منتصبةً أمام اللوحة، وعند دخولي كانت في طريقها إلى الخروج. ولدى المرور أمامها، تبيَّنتُ من خلال الخِمار الأسود العينَين الرماديتَين البليلتَين والنظرة المروِّعة لدنيس ف. ولم يتهيَّأ لي أن أوجِّه إليها التحيَّة؛ فقَدْ مرَّتْ أمامي كظلٍّ.
وفي المساء وأنا جالس في مطعمٍ صغير مُلقيًا بنظري على المدينة من النافذة، بدأ المطر يهطل ثم وصلتْ زوجتي بعد حين.
– آه، خبِّرني كيف وجدتَ اللوحة؟
– رائعة، ثم إنني قابلتُ تلك المرأة التي الْتقيناها في «سو».
فبدَرَ منها الاستغراب وسألت: أأنت متأكِّد؟
– أجل؛ تمامَ التأكُّد. لقد كانت في ثوبِ الحِداد كما هي في ذلك اليوم.
ثم إنها صمتتْ بعض الوقت، وأمعنت النَّظر في وجهي قائلة: ولكن دنيس ماتت منذ وقت مضى.
وبدا لي كما لو أنَّ العالم كلَّه قد خفَتَ منه الحِسُّ.
وفي الفراغ الذي ساد بقي المطر وحده يهطل غزيرًا. وإنني لأذكُر، أيضًا، وبكلِّ وضوح أنَّ وجه زوجتي كان بعيدًا على نحوٍ غريب.