في جوهر الكائن
نشَرَ كواباطا يسوناري (١٨٨٩–۱۹۷۲م) القصة القصيرة في جوهر الكائن في مجلة «بنجي شونجو» في شهر شباط (فبراير) ١٩٦٣م، وهو في الرابعة والستين من عمره. وقد نُشرت تحديدًا بعد قصتَيه المعروفتَين: «الناعسات الجميلات» في ١٩٦٠م، و«العاصمة القديمة» (كوطو) في ١٩٦١–١٩٦٢م. وفي سنة ١٩٦٩م حصل كواباطا على جائزة نوبل لللآداب، ووضع حدًّا لحياته منتحرًا سنة ١٩٧٢م.
القصة المترجَمة، هنا، ربما تثير استغراب القارئ المطَّلِع على أدب كواباطا، والذي ألَّف عنده عالمًا ترصد فيه الأجواء اليابانية التقليدية. والواقع، إن الأمر يتعلَّق دائمًا بالطريقة نفسها في وصف المرأة فيزيولوجيًّا بدلًا من تقديمها اجتماعيًّا.
إنَّ «ممويو»، من جهة اسمها الشخصي، هي المرأة من حيث الجوهر، المرأة الخصبة (من «مومو» الخوخة) جيلًا عن جيل («يو»). أوَليس طفل الحكاية اليابانية التقليدية مولودًا من الخوخة التي تتفتَّح؟ غير أنَّ المرأة الفيزيولوجية، وكما سنلاحظ، في هذه القصة تعبُر بسهولة حدودَ ما هو مَرَضِي؛ ومن ثَم فإنَّ الكاتب الذي اهتمَّ طوال ممارسته الإبداعية بالمرأة، سيحمل في سِنِي حياته الأخيرة اهتمامًا خاصًّا بالانزلاق ممَّا هو فيزيولوجي إلى ما هو مَرَضِي (باثولوجي).
قصة «في جوهر الكائن»، نُشرت مترجمةً إلى الفرنسية في المجلد الثالث من سلسلة «قصص يابانية»، منشورات بيكيبر، باريس، ۱۹۸۸م.
في جوهر الكائن
«أي ألَمٍ أنْ أراك … وأي ألَمٍ ألَّا أراك.»
وبألَمٍ شديد بقيتْ رسالةُ مومويو منقوشةً في قلب شيمورا.
وبدا له كأنَّما قام في داخله نصُبٌ سُجِّلتْ عليه هذه الكلمات.
والنُّصُب يعوم في الليل الفارغ غارقًا في ضبابٍ كثيف. تحت النُّصُب انتصبتْ شجرتان من الدَّرْدار عاريتان من الأوراق، وتحاذيان ضفَّة نهرٍ كبير يجري قريبًا منهما متخفِّيًا في الضباب، ثم ما يلبث أن يتبدَّد صُعدًا في فضاءٍ ناصعِ البَياض. هل هذا لون الأشجار؟ كلَّما فكَّر في عبارتَي مومويو يتجلَّى أمام شيمورا هذا المشهد.
والنُّصُب العائم في الفراغ كان العنصرَ الوحيد المقترِن بالهلوسة، في حين لم يكُن للنُّصُب، لا في الضباب المتأخِّر ولا في قلبه، أيُّ شكلٍ محدَّد. وكل ما في الأمر، أنَّ كلمات مومويو تمكَّنتْ من داخله، كما لو أنَّها حفرتْ على الصخر.
لم تكُن هذه الكلمات زخرفةً خالصة. ومن ريشة مومويو التي تخطُّ أحيانًا كلامًا غريبًا، بدتْ له الكلماتُ عاقلةً. وفي نظره، فهي تعبِّر عن خشية الخطيئة عند امرأةٍ متزوِّجة متوجِّهة إلى موعدٍ سِريٍّ مع رجُلٍ، والاضطراب الذي يمسُّها حين تسيطر على رغبتها في أن تراه. وقد عدَّ شيمورا أنَّه هو مَن كان ينبغي أن يوجِّه هذه الرسالة إلى مومويو. واتَّضح له أنَّه يحمل في نفسه ذات الأحاسيس التي لديها. ثم ألَمْ تكُن كلماتها تضرُّعًا إلى الحُب. وبدا له أنَّ إدراكه حُبَّه لها عن طريق رسالتها يُعدُّ في الحقيقة خضوعًا لسطوة امرأة. لكنْ، وبالنسبة إلى شابٍّ مثله في الثانية والثلاثين من العمر، فإنَّ مومويو امرأةٌ بالغة الغرابة. وإنَّ بها شيئًا أقلَقَ شيمورا حتى أنَّه سأل نفسه إن كانت امرأةٌ مثلها تستطيع أن تحبَّ رجلًا، أو إنَّ رجُلًا يَقْدر على حُب امرأةٍ كهذه. لقد كانت مومويو في السادسة والعشرين، أيْ تصغُره بستِّ سنوات، غيرَ أنَّه ليس للعمر علاقةٌ بمثل هذه الأمور.
ومع ذلك، فحين أخذها شيمورا بين ذراعَيه أولَ مرَّة انكمشتْ على نفسها مرتعِشةً؛ فهل كان ذلك بسبب أنَّها متزوِّجة، وما تزال في مُقتبَل العمر؟
– إنني قذِرة جسدًا ورُوحًا — قالت — إنني قذِرة.
تردَّد شيمورا قليلًا، ثم خفَّف لحظةً عناقه إيَّاها قائلًا: «على هذا الأساس فإنَّ البشرية كلَّها قذِرة، ولكنْ من الخطأ الاعتقاد بذلك. ليس ثمَّة أحدٌ قذِرًا، ومَهمَا فعلَت البشرية فإنَّها لا يمكن أن تكون قذِرة …»
– في جوهر الكائن، هناك أشياءُ كثيرة. ثمَّة غليان.
– في جوهر الكائن، في جوهركِ أنتِ، هذا ما تقصدين؟
– أجل، في جوهري أنا … إنني خائفة.
– في جوهر مومويو، لا توجد إلا مومويو. ألَا تعتقدين بهذا؟
– لا، مومويو ليست في جوهر مومويو.
– وهذه مَن؟ سأل شيمورا وهو يهزُّها.
– إنَّها مومويو.
– ولكن في الجوهر ماذا يوجد؟ أريد أن أرى؛ أريني ماذا هناك.
– أنت يا شيمورا، بعينَيك هاتَين، لا تستطيع أن ترى، وهذا أفضل.
تقول مومويو وقد بدتْ هادئةً مسبلة العينَين.
شرع شيمورا يعريها: يا له من جسدٍ جميل! … لماذا تظنِّين أنَّه قذِر؟
– إنَّك لا تستطيع أن ترى يا شيمورا.
– أجل، إنني أرى جيدًا.
– لا تنظُر إليَّ؛ إذ ليس معروفًا ما يمكن أن يخرُج منِّي.
– أوه، ليخرجْ أيُّ شيء؛ فالأمر عندي سيَّان … سنطرد كلَّ ما هو في الداخل. الشياطين والجِن والديدان والعظايات.
وحركتْ مومويو رأسها بالنفي نحو الأسفل: إنَّك لا تفهم؛ هناك أيضًا البحر والثلج، ثم هناك الأشباح التي تدخُل وتخرُج.
– وإذن، فعندي أنا كذلك هذا الشيء، بلا شك.
– كلَّا، لا داعي لمحاولةِ مواساتي، أنت الذي من لُطفك تعلَّقتَ بي.
وقال شيمورا بنبرةٍ هادئة وعذبة: لماذا عندكِ هذا، هنا؟
– لأنني امرأة.
– غريب.
– المسألة هكذا، إنني سعيدةٌ بكوني امرأة. وبفضل هذا أ…
– لا يبدو عليكِ أنكِ أنجبتِ مرتَين.
– هكذا، إذن؟ أتعتقد أنَّه ليس حسنًا؟
– كلَّا، على العكس تمامًا.
وبعد قليل استعادتْ مومويو تنفُّسًا هادئًا، وظلَّتْ بلا حراك. ولكنْ لأنَّ الصمتَ هيمَنَ؛ استأنف شيمورا الكلام.
– أوَتنامين؟
– لا، لا أنام. إنني سعيدة. أعطني يدك.
بحثت مومويو، وعيناها ما تزالان مُغمَضتَين، عن ذراع شيمورا ووضعتْها تحت رقبتها، وبدتْ مهيَّأةً لتنام.
– بمُستطاعكِ أن تنامي، قال لها.
– أوه، لا؛ سيكون هذا مؤسفًا.
– مَن يدري، فلعلَّكِ إنْ نمتِ فستجعلين الأشياء التي في داخلكِ، كما تزعمين، تنام بدَورها؟
– أخشى إن نمتُ ألَّا أحسَّ بأنِّي بين ذراعَيك. وليس لدينا وقتٌ كثير، وهذا مؤسفٌ حقًّا. وسيكون جميلًا لو استطعتُ أن أراك في الحُلم، ولكن سيكون محزِنًا أن أحلُم بشيءٍ آخر. إنني بمجرد أن أغفو أحلُم.
وفتحت مومويو، التي كانت تتكلَّم بطيئًا بصوتٍ غَرِد، عينَيها فجأةً ونظرتْ إليه مُرتعِبة: تريد منِّي أن أنام؛ لكي تفكِّر وحدك في أمرنا وأنا نائمة، أليس كذلك؟
– ماذا تقولين؟
– هذا هو، أليس كذلك؟ اعترفْ! قالت وهي تسند وجهها إلى كتف شيمورا: لعلَّه كان من الأفضل لي لو أنَّ السيارة داستْني.
– ماذا تقولين … لقد تجشَّمتِ خطرًا هائلًا … كيف يمكن فِعلُ شيءٍ مماثِل؟ قال شيمورا وهو يمرِّر أصابعه في شَعْرها.
– ولكنني أردتُ أن أُخاطر بحياتي. قالت مومويو: أجل، كان عليَّ أن أختار بين أن أموت على يدَيك أو أن أُصبح بين ذراعَيك.
– من حسن الحظِّ أنِّي لم أقتلُكِ — وحين نطق بهذه الكلمات أمستْ حساسية جسد مومويو أكثر واقعية — ولكن افترِضِي أنني سبَّبتُ لك جُرحًا؛ فهل كنتُ أظنُّ أنكِ بين ذراعَيَّ في هذه اللحظة.
– هل تعني حقًّا ما تقول؟
– إنَّها العناية الإلهية وحدها التي أنقذتْنا. هذا هو التفسير الوحيد، وأنا لا أعرف أيَّ معجِزةٍ جعلتْ سيارتي تقف.
– أنا مَن دفَعَ بالقدَرِ إلى هذا الاتجاه، بمستطاعك أن تضغط على القدَر. قالت مومويو بمرح: ففي جوهر الكائن يوجد هذا أيضًا.
– …
لم يكُن شيمورا قادرًا على أن يقتنع اقتناعًا معقولًا بما تقول. ومع ذلك ما كان هناك مناصٌ من القبول بأنَّ مومويو قد «دفعَت القدَرَ» وهي «تخاطر بحياتها».
إنَّ هذا الفعل الذي أقدمتْ عليه مجازِفةً بحياتها، هذا الفعل الجنوني هو قطعًا ما يربط أحدهما بالآخر الآن؛ فقد غامرتْ مومويو بحياتها، ولكنها مقابل ذلك كسبتْ شيمورا.
ففي ليلةٍ شتائية غارقة في ضبابٍ كثيف، كانت سيارةُ شيمورا تنهبُ الطريق المحاذية للضفَّة، حين ظهَرَ على حين غِرَّة قَوامُ امرأةٍ في ضوءِ مصابيح السيارة. ولقد أغمض شيمورا عينَيه بعضَ ثانية وهو يجهل كيف تجنَّب الخطر بالابتعاد نحو النهر، ولا كيف أوقف السيارة، ولم يحسَّ بشيءٍ تحت العَجلات، ولكنْ وقَدَ في ذهنه أنَّه صدَمَ المرأة. وحين فتَحَ عينَيه لم يتبيَّنْها. هل كانت هلوسةً؟ شبحًا؟ لا ليس هذا بممكنٍ، ونزل شيمورا. كانت سيارته قد لامستْ شجرتَي دَرْدار ضخمتَين قبل أن تتوقَّف نهائيًّا. كانت المرأة مُرتمِيَةً على الطريق. وحين أراد رفْعَها عن الأرض، بدتْ كالمُغمى عليها.
وفي ضوء المصابيح تفحَّص وجهها، وصدرت منه صرخةُ استغراب: إنَّها السيدة ميساكي!
وتحت وقْعِ المفاجأة هزَّها قليلًا: سيدتي! سيدتي!
فتحتْ عينَيها، ونظرتْ إليه: آه، إنَّه أنت، سيد شيمورا.
– أيُّ خوفٍ هذا الذي استولى عليَّ! عسى ألَّا أكون قد صدمتُكِ.
حاول إنهاضها، ولكنْ لم يكُن في طاقتها ذلك، وحَسبَ أنَّه جرَحَها في ساقَيها ثم ما لبث أن فطِنَ إلى أن الصدمة هي ما يجعلها غيرَ قادرةٍ على الوقوف؛ فأجلسها في السيارة وهو يقول: ولكن ماذا كنتِ تفعلين هنا؟
– كنتُ أنتظر مرورَ سيارتك.
– ماذا تعنين؟
– إنني أعرف أنَّك تعود من هذه الضفَّة.
– …
– أردتُ أن أُسحق بسيارتك.
ونظَرَ شيمورا إلى وجه مومويو وهو يسأل نفسه: هل كانت في حالة هذَيَان؟ وحين دخَلَ السيارة استندتْ إليه. وما إن سحَبَ نفسه، حتى انهارتْ على المقعد.
– لنذهبْ للبحث عن طبيب، قال شيمورا.
– لا، لا أريد طبيبًا. ثم إنها استقامتْ مستنِدةً إلى كعبَيها قائلةً إنَّها لا تشكو من شيء.
– وإذن، سأرافقكِ إلى بيتكِ.
– لا، لا ليس إلى بيتي؛ إنَّها سيارتك ما كنتُ أنتظر.
– اهدئي قليلًا.
– ساعدْني، احملْني إلى مكانٍ ما؛ كي أستريح … إنَّ فمي متيبِّسٌ تمامًا، وحنجرتي مُلتهِبة.
راح شيمورا يسوق بهدوءٍ في الليل الغارق في الضباب وهو يلتفتُ نحوها بين الفينة والفينة، خيِّل إليه أنَّه ينقل مجنونة. واستبدَّ به القلق إزاءَ فكرةِ أنَّ مومويو قد تحاول فتحَ الباب وإلقاءَ نفسها إلى الطريق، غير أنَّها في تلك اللحظة اكتفتْ بدَعْكِ خدِّها بيدها اليمنى، وهنا سألها شيمورا: أوَأُصبتِ في خدِّك وأنت تقَعِين؟
– لا، إنَّما ألمس خدي لأتأكَّد من أنِّي لستُ في حُلم؛ إذ أخشى أن تختفي كما يحدُث في الحُلم.
– بل أنتِ من أخشى أن يختفي كما في الحُلم. عفريتٌ عابر يصعد إلى سيارتي، وبعد وقتٍ ألتفتُ فلا أجِدُ أحدًا، لا أجِدُ سوى الضباب يغمُر السيارة.
– أمَّا أنا في الضباب؛ فلم أكُن أرى سوى صورتك. إنَّ هذه الرؤية هي ما قادني إلى هنا بشيءٍ يُشبه المشي في عمق الماء دون تنفس، وإنِّي لمُستغرِبة كيف أنَّي بعدُ على قيد الحياة.
– أوَلستِ عفريتًا اتَّخذ سمتَ مومويو؟
– لست أدري، ففي داخلي لا يوجد سواك. أمَّا أنا فلستُ موجودة.
غادرت السيارة الضفَّة لتدخل إلى المدينة، وتوقَّف شيمورا عند نُزُلٍ صغير.
وشربتْ مومويو ثلاثةَ أقداحٍ من الماء بإيقاع مُتواصِل دون أن تسترجع نفَسَها.
– وأخيرًا. ها أنت ذا لي. وبعينَين غائمتَين بالدمع أضافتْ: إنني شنيعةٌ.
– وإذن، فإنَّكِ تجشَّمت هذا الخطر من أجل إغوائي!
– لقد كانت الوسيلةَ الوحيدة. أوه، لشدَّ ما أنا خائفة! — وتعلَّقتْ بذراع شيمورا — وإنَّ مصيري أن تحملني الانجرافات.
حين أقول الكلمة فأنا أرى الانجرافات. أراها تهوي إلى داخلي وتحملني.
– النجدة!
وأخذها بين ذراعَيه وهي مُنكمِشةٌ ترتعش.
كان شيمورا وميساكي، زوج مومويو، رفيقَي دراسة في الجامعة، ودُعي شيمورا إلى زواجهما. وفي ختام حفل الزفاف اصطفَّ العروسان مع الأقارب والشهود؛ لتحيَّة المدعوِّين الذين شرعوا في المغادرة، ولقد صُعق شيمورا وهو يرى عينَي العروس باكيتَين.
فيما بعد كان يُدعى أحيانًا عند أُسرة ميساكي، أو يمرُّ لزيارتها دون موعد. وكان يعلم أن مومويو أنجبتْ طفلَين. وذات يومٍ وهو يمرُّ للزيارة، قدَّمتْ له مومويو طفلتها الصغيرة ذات الشهرَين؛ فهنَّأها وأثنى عليها، وقالت: هل تعلم أني حملتُ هذه الطفلة في بطني تسعة أشهُرٍ كاملة؟
– إه …
وكانت الطفلة نائمة.
– أري السيد شيمورا عينَيكِ. قالت وهي تُهَدهِدها في محاولةٍ لإيقاظها، وطفقت الصبيَّة تبكي بصوتٍ عالٍ حتى احمرَّ وجهها.
– لم تكُن تبكي حين كانت في بطني.
وعند سماعه هذه الأقوال شبه الغريبة، شرع شيمورا يتفحَّص مومويو التي أضافت: أنا، أردتُ أن أبقى في بطن أمي. أتوجد كائناتٌ لا تغادر بطن أمِّها؟
– …
بعد عامٍ من هذا اللقاء، أدرَكَ أن مومويو تحسُّ نحوه بميلٍ قوي. وبتحريض من ميساكي، قرَّر الالتقاء بفتاةٍ لغرض الزواج.
– إنَّ مومويو تلحُّ بشدَّة في أن تساعدك في اختيارك — قال ميساكي في هذه المناسبة — وكما تعرف فهي غريبةُ الأطوار بعض الشيء. إنَّ بوُسعها أن تقول أيَّ شيء؛ فلا تبالي بشيء.
كانت الفتاة برفقة أمِّها، وتعشَّى الجميع في مطعمِ فندقٍ كبير. وإلى جانب مومويو التي كانت تغطِّي وجهها كآبةٌ عميقة، بدَت الفتاةُ مثلَ صفحةٍ بيضاء. وفي لحظة التوديع أهدتْ مومويو إلى شيمورا علبةً صغيرة، احتوت على دبوس لربطةِ العُنق، مصوغ بجواهرَ سُود. وإذا كان غريبًا في مناسبةٍ مثل هذا اللقاء أن تقدِّم له مومويو هديَّة؛ فإنَّ ما أثار استغرابَ شيمورا أكثر هو الورقة التي وجَدَها مدسوسةً في العلبة. ومن الطبيعي أنَّ شيمورا كان أبعدَ ما يكون عن أن يتصوَّر، ولو في الحُلم أنَّ مومويو قادرةً على أن تُلقي بنفسها تحت عَجَلات سيارته مُجازِفةً بحياتها.
وبالطريقة نفسها التي لم تتردَّد فيها عن المخاطرة بحياتها في فِعلٍ متطرِّف، واصلتْ مومويو أيضًا ملاحقةَ شيمورا برغبةٍ جامحة.
«أي ألَمٍ أنْ أراك … وأي ألَمٍ ألَّا أراك.»
بقيَت الكلمات التي كتَبَتْها إليه كما لو أنَّها منحوتةٌ على نُصُبٍ عائم في الليل الفارغ، غارق في الضباب، كلمات مكتوبة على قلبه. وشعَرَ بأنَّ سرقةَ زوجةِ صديقٍ والإحساس بالذنب باتا يسبِّبان له ألمًا لا طاقةَ له على احتماله. وشرع شيمورا يبتعد عن مومويو. لكنْ ما إن تغيب عن ناظرَيه حتى يتصوَّر أنَّه لا توجد امرأةٌ تُضاهيها ممَّا خلَقَ لديه اضطرابًا مستمرًّا يُطبق على أنفاسه. وفي كلِّ مرَّة يتخطَّى فيها شجرتَي الدَّرْدار محاذيًا الضفَّة بسيارته، وهو عائد إلى بيته يخيَّل إليه أنَّه سيصدمهما، فيما تفكيره يقول له دومًا: «إن تركتَ مومويو؛ فلرُبَّما دفعتَها إلى الجنون، إلى الأبد.»
وذات يومٍ وهو في عمله، اتصل به ميساكي هاتفيًّا، وأخبره بأنَّه يريد أن يُحادِثه بشأن مومويو، ولم يستطع شيمورا أن ينبس ببنتِ شفة. قال له ميساكي إنه في انتظاره عند مُنعطَف «جينزا» أمام بناية «واكو» في الساعة الخامسة والنصف.
في هذا الوقت في فصل الشتاء، يهيمن بعض الغبش. وحين اقترب شيمورا من ميساكي، تبِعَه هذا الأخير كما لو أنَّه يريد لنظراتِهما ألَّا تلتقي، وبادَرَه قائلًا: أعتقد أنَّ من الأفضل أنْ نتحدَّث ونحن نمشي وسط الناس، وبخاصة بالنسبة إلى هذا النوع من المحادثة.
– إنني أحسُّ بالخجل إزاءَك، إنني جِد خجِل.
– …
– لقد روتْ لي مومويو قصَّتك. إنني على علمٍ بكلِّ شيء.
– اغفر لي؛ فأنا لا أعرف ماذا أقول لك. وواصل شيمورا كلامه ببصرٍ خفيض: المعذرة أعرف أنَّ ما من جدوى من هذا الكلام، ولكن …
– كلَّا؛ لا بأس. ليس هذا ما أردتُ أن أتحدَّث عنه.
واصَلَ ميساكي بصوتٍ خفيضٍ، وجِد مُرتبِك: لماذا لا تريد رؤية مومويو هذه الأيام؟
– كيف؟
– ألأنَّك تعتقد أنَّها مريضة؟
– لا.
– سأقول لك، لا يضيرني أن تراها.
ومضى شيمورا بضعَ خطواتٍ قبل أن يُجيب: ولكنْ لماذا تقول لي هذا؟ إنَّك أنت المريض!
– أنا في كامل انتباهي، ولستُ إلا الملاك الحارس لمومويو، ومجرَّد بقائها على قيد الحياة يُشعرني بالسعادة. كما أنَّ سعادتي، هي أن يمكِّن وجودي من الحفاظ على سعادتها.
– يبدو أنَّك كِدتَ تدوسها؟
– …
– إنَّك تشكُّ في أنَّه كان لمومويو رجلٌ آخر قبلَك. لقد كان لها عشيق قبل زواجنا، وهي تحتاج دائمًا إلى رجُل.
– وأنت هل تتسامح إزاءَ هذا الوضع؟
– إنَّني مُجبَر على هذا؛ إذا لم يكُن لها عشيقٌ تحسُّ بحالةٍ من الافتقاد، إنَّها الأعراض نفسها، أعراض المُدمِنين على المُخدِّرات؛ فتُصبح مثل الحمقاء، وهذه هي حالتها بعد أن تركتَها.
– …
– الكائن — إنَّه هو مَن تقصده مومويو بهذه الكلمة — جوهر الكائن، هناك أشياءُ كثيرة، ألَمْ تقُل لك هذا؟
– أجل، لقد قالت.
وفجأةً لاحت لشيمورا الطريق التي تُحاذي الضفَّة، قريبًا من أشجار الدَّرْدار العارية من أوراقها، أوَلن تَظهر مومويو من جديد تحت العَجلات؟ وهل يستطيع المصير أن يوقف السيارة مرَّة أخرى؟