سيد السعادة والثروة
سيد السعادة والثروة
في عام ١٣٤٦م من عهد زيزنغ كان المتعلِّم تايزوهي يورين، وقد ناء كاهله بالفقر والخَصَاص. لا يعرف أين يولِّي وجهه ليضمن قوت يومه.
مكتب السعادة والثروة.
وأمام هذه اللوحة الإلهية استكان إلى الصلاة، وهذه صلاته: «لقد عشت خمسة وأربعين عامًا لا يزيد ما أملكه عن جَلْس للشتاء وجبةٍ خلِقةٍ للصيف. وغذائي يقوم على صحنٍ من مرق الرزِّ صباحَ مساء، علمًا بأنني لم أعرف أيَّ تبذير ولا اقترفتُ أيَّ إثم!
أعيش في قلقٍ دائم، وفي شاغلِ الوقوع ضحيةَ شدَّة العوز. بل إنني، وحتى في فصول الشتاء الرفيقة، أقاسي من البرد. وخلال سنوات الغِلال الوفيرة، أعاني من الجوع، فلا أحار صنيعًا؛ فليس لي صديقٌ أجِدُ عنده المَلاذ، ولا البقاء في بيتي يُسعفني من التضوُّر من الجوع! ثم إنَّ زوجي وأولادي يحتقرونني أنْكَى الاحتقار، ومُواطنيَّ قطعوا كلَّ صِلةٍ لهم بي. ومني قلقي وتعاستي، ليس لي مَن أشكو إليه حالي.
ولقد سمعتُ من أقوال الناس بأنَّكم القوة الإلهية العُظمى المسئُولة عن الثروات والمكارم، وأنَّ يدَكُم تقبض على أمرِ تصريف الثروة، وأن الذين يقصدونكم سرعان ما يُستجاب طلبهم، وأنَّ مَن يوجِّهون الدعاء إليكم لا يخيب لهم أملٌ قَط!
ولهذا فإنني لا أملك، رغم كلِّ تأنيبٍ قد أتعرَّض له بيني وبين نفسي، إلا أنْ آخُذ مُطلَق الحرية في أن أترجَّاكم، وأن أخشع أمام مذبحكم ملتمِّسًا منكم بكلِّ امتنان الكشفَ عن سِر مستقبلي، وحوادث الأيام التي تنتظرني! إنَّ مثل هذه الإشارة ستُخرجني من ضياعي، وستنتزعني من غياهب تِيهِي؛ ذلك أنني، شأن سمكةٍ تموت من الجفاف وتتوقَّع أن يُهرق فوقها سطلُ ماءٍ لتستعيد الحياة، مثل طائرٍ مَهيضِ الجَناح يبحث عن غصنٍ يحطُّ عليه! ولسوف أكون طوعَ أمركم وإشارتكم السامية؛ فإنْ كان الماضي بلا عودة والمستقبل قد فات الأوان لتعديله، وإنْ كان مصيري التعيس قد أحكم وضْعَه نهائيًّا؛ فإنني آمُل، كذلك، أن تتفضَّلوا بتنويري ببعض الجواب، عساني أكون على علمٍ مقدَّمًا بما سيعترض سبيلي.» وبعد الانتهاء من هذه الصلاة تراجَعَ قليلًا إلى الوراء، وتقرفص قُبالةَ المذبح.
بَيدَ أنَّه في هذه الليلة، في الرواقين الشرقي والغربي، على اليمين وعلى الشمال، وفي كلِّ جنبات المعبد، شعشعَت الأضواء من كلِّ جهة، مع حشدٍ هائل من الشخصيات المتضاربة … ووحده المكتب الذي قصده يورين بقي فارغًا، وبدون إضاءة.
بقي يورين في الظَّلام، وحوالي منتصف الليل سمِعَ صوتَ المنادي متقدِّمًا يفتح الطريق وهو يقترب، وما إن يُوشك على الوصول إلى باب المعبد حتى يتداعى قُضاة كلِّ المكاتب على عجَلٍ لاستقبال الوافدين.
وحين يدخلون يتشكَّل صفَّان من قناديل الغاز، وحاشية تسير في موكبٍ رسمي. هناك أولًا الحاكم، وهو يرتدي جبة القضاء، مُمسِكًا بالصكوك بين يدَيه. يتقدَّم نحو القاعة الرئيسية ويجلس. ونحوه يتوالى مختلف القضاة يقدِّمون له ولاءهم. وحين تنتهي هذه المهمَّة، يتراجعون مُنصرِفين من جديد إلى أعمالهم. أمَّا مسئُول مكتب الثروة والمكارم، فإنه يخرج بدوره من القصر؛ لأنه يُعدُّ واحدًا من حاشية الحاكم، ويكون قد عاد لتوِّه من جلسة في السماء.
يتَّخذ له مجلسًا، ويتقدَّم عدَّة قضاة مكسوِّين بأرديةٍ حمراء أو خضراء؛ لحضور الجلسة وليقدِّم كلٌّ منهم، على حِدَة، تقريرًا عن القضية التي يحقِّق فيها. يبدأ واحدٌ منهم تقريره: «في العائلة الفلانية بالمكان الفلاني، حُفظ ألف كيسٍ من الرزِّ. ومؤخَّرًا دبَّ الجفاف، وزحف طوفان من الجراد؛ ممَّا أدَّى إلى تضاعُف سعر الرزِّ، ومنعَت المقاطعات المجاورة شراءَ الحبوب. وبين سكَّان الأرياف خلَّف الجوع ضحايا عديدين. وعندئذٍ أقدمَت العائلة المذكورة على فتْحِ مطاميرها لنجدة السكَّان قانعةً بالسعر الأصلي للرزِّ، دون أيَّة محاولة لجني أرباحٍ زائدة. وعلاوةً على هذا، فإنَّها وزَّعت كثيرًا من الطعام على الفقراء والمُعوِزين؛ ممَّا ساعد على إنقاذ أعدادٍ كبيرة من الحيوانات البشرية. وإن قداسة هذه المنطقة أعلمتْ مؤخَّرًا مكتبي الذي تشرَّف بإخبار سيادة الحاكم، الذي قام بدوره بإعلام المحاكم السماوية. وقد تقرَّر إطالة حياة هذه الأسرة لمدَّة أربعين عامًا، ومُنحت ستمائة ألفِ مِكيالٍ من الرزِّ.»
وجاء تقريرٌ ثانٍ: «في العُصبة الفلانية من البلدة الفلانية، أظهرَت امرأةٌ وفاءً عزَّ نظيرُه؛ ففي حين كان زوجها على سفرٍ بعيد، أصاب أمَّه مرضٌ فادح، لم ينفع معه علاجُ السحَرة ولا الأطبَّاء. ثم إن المرأة بعد صومٍ وتعبُّد وتقديم قرابين وجَّهتْ دعواتها … إلى السماء وأعلنت عن استعدادها لتهَبَ جسدَها مقابل جسَدِ المريضة، وأن تقطع قطعةً من لحم فخذها لتغذِّيَها. ومقابل هذا الإخلاص، شُفيت المريضة. وبالأمس جاء من المحاكم السماوية ما يلي: «إنَّ تفاني هذه الزوجة ووفاءها، قد نفذ إلى السماء والأرض. وصِدقُها أدهَشَ الملائكة والأرواح الشريرة! وعليه؛ فقَدْ تقرَّر أنْ تُنجب ولدَين سيحصلان على تعويضاتٍ مالية كُبرى، وسيضعانِ إكليلَ الغار على أهلهم. كما ستُكرس هي كامرأةٍ مبجَّلة ونبيلة.» وقد أبلَغَ الحاكم المسئُول قراراته إلى مكتبي، وبالفعل فقَدْ تمَّ تسجيل اسم المرأة في سجلات السعادة.»
ثم تقدَّم من يتلو تقريرًا ثالثًا: «إنَّ الموظف الفلاني المدعوَّ فلان، والذي بلغ مرتبةً عليا في وظيفة، والذي كان يحصل على راتب مرتفع قد تغافل عن واجباته إزاءَ بلده، وانصرف كلُّ تفكيره وطموحه إلى إرضاء نهَمِه وتحصيل مزيدٍ من الثَّراء؛ فقد قبل ثلثمائة سبيكةٍ ليُصدر حُكمًا ينتهك القانون، وحصل على خمسمائة قطعةٍ نقدية ليجرِّم مواطنًا بريئًا. وقد أحال الحاكم المحلي الموضوع على المحكمة السماوية طالبًا عقابَ المتَّهم. بَيدَ أنَّ القدَر أراد للشخص المعنيِّ نصيبًا وافرًا من السعادة! وهكذا فقَدْ مُنح عمرًا مديدًا من عدَّة سنواتٍ بُغية أن يشهد الخراب الذي سيُهلك عُصبته عن آخرها! والآن، وطبقًا للأوامر، فقَدْ سجَّلتُه في سجلات الشقاء وأنتظر فقط الوقتَ المناسب.» وانطلق رابعٌ يتلو تقريرًا جديدًا: «إنَّ رئيس القرية الفلانية، كان يملك آلاف الدونمات من الأرض، ولكنَّه كان على شرَهٍ لا مزيدَ عليه. وقد جهد لتوسيع ممتلكاته والاستيلاء على أرض جاره. وقد اضطُرَّ هذا الأخير، الذي لم يكُن له من معينٍ ولا نصير، إلى البيع بثمنٍ زهيد. لكنَّ الأدهَى من هذا، هو أنَّه لم يتسلَّم شيئًا قَط؛ فقد رفض المشتري أن يُنقِده المبلغَ المتَّفَق عليه. ثم إنَّ الضحيَّة مات من أساه وغصَّته! وقد أرسلت المحاكم الجهنَّمية طلبًا إلى مكتبي لإلقاء القبض على المتَّهم ووضعه في السجن، ولكنني علمت أنَّ أمره قد قُضي؛ فقد مُسخ ثورًا وتناسخ عند أُسرة العائلة المنهوبة ليلقى — هكذا — عقابَ أعماله السابقة.»
وحين أنهوا جميعًا تلاوة تقاريرهم؛ فرَكَ قاضي مكتب الثروة فجأةً حاجبَيه، ووسَّع عينَين مندهشتَين، ثم صدرت عنه حسراتٌ طويلة قبل أن يُعلن: «الآن أيها السادة، لقد قُمتم جميعًا بواجباتكم، فكافأتم المحسن وعاقبتم المذنب، وكلُّ هذا أنجزتموه بكامل التوفيق والسداد. إنما مصير العالم على الأرض كما في السماء، وعهد الإتلافات التي تهدِّد الأحياء والكوارث الوشيكة. كل هذا، وبالرغم من حسن تدبيركم، كل هذا أيها السادة، لا يمكن تجنُّبه!»
– «بمَ يتعلَّق الأمر؟» تساءلوا بصوتٍ واحد؛ فراح يشرح لهم: «بما أنني كنتُ موجودًا في حلبة الإمبراطور السماوي؛ فإنني سمعتُ كلَّ القِدِّيسين يتناقشون في أمور الغيب. وممَّا سمعتُه أنَّه بعد بضع سنواتٍ ستندلع حروبٌ كبرى، وسيسقط آلافُ الضحايا. في هذا الوقت، ما عدا أن يكون المرء قد راكم الأعمال الحسنة والسِّير الحميدة، ما عدا أن يكون على نزاهةٍ عالية، فإنَّ أحدًا لن يُفلت من الهلاك. فكيف يحدُث، إذن، أن يتمتَّع البَشَر بمثل هذه الحماية الهشَّة وأن تكنسهم مثل هذه الكوارث؟»
وتبادل الجمعُ النَّظرَ بحركاتٍ مرتعِشةٍ وقالوا: «لا طاقة لنا بأمورٍ تتجاوز اختصاصاتنا!» ثم تفرَّقوا بعد ذلك، كلٌّ إلى سبيل.
وفي هذه اللحظة فقط، نهض يورين من قعدته من تحت المذبح، وانطلق يشرح أسباب زيارته، وطفق القاضي يختبره بتمعُّنٍ وتطويل، ثم طلَبَ من مُعاوِنٍ له إحضارَ السجلات التي تفحَّصها بنفسه. وبعد ذلك قال ليورين: «أيها السيد، إنَّ سعادةً عظيمة ومستقبلًا باهرًا ينتظرانك، وإنك لن تُطيل المُكث في حالِ البؤس! ومن الآن، ستعرف يومًا أفضلَ من الذي يسبقه، وسيقودك من الظلام إلى النور.» ورغب يورين في أن يتعرَّف أكثر؛ فأخذ القاضي ريشةً مُثقَلةً بالمِداد، وسطَّر ستةَ عشَرَ حرفًا على ورقةٍ مدَّها إليه؛ فقرأ فيها:
وخبَّأ يورين الورقة في صدره، ثم خرج أخيرًا. وحين كان عند مخرج المعبد، كان النهار قد بدأ بالطلوع. وعندئذٍ بحث عن مخبُوئه؛ فلَمْ يعثُر على شيء.
وما إن عاد إلى بيته، حتى بادر إلى زوجه وأولاده يقصُّ عليهم سيرته من باب المواساة.
وما إن مرَّت أيامٌ معدودة، حتى دعاه أحدُ الأعيان الكبار بالمنطقة يسمَّى فو، والملقَّب رينيغ (بريق الشمس)؛ ليتكلَّف بتربية أبنائه مقابل خمس سبائكَ في كلِّ شهر، ضمنتْ له ولأهله يُسرًا لا بأس به.
وفي المجموع، فإن يورين قضى عدَّة سنواتٍ في هذه الخدمة، ثم إنَّ زانغ شاينشج استنفر قوَّاته نحو إقليم جايو. وكلَّف القصر المغولي طوكتو بقيادة الجيش وإخضاع الإقليم، وذلك في الوقت الذي كان فيه الوصيُّ الإمبراطوري دالي يوشا (رمل القمر) منصرفًا إلى أعمالٍ مختلفة. ولقد كان شخصًا مثقفًا ومقدِّرًا للمتعلِّمين.
واقترح عليه يورين، وهو يرتمي بين قدمَيه، خطةً استراتيجية بدا أنَّها حظيتْ بإعجابه؛ فأوصى طوكتو به خيرًا. ومنذئذٍ الْتحَقَ يورين بالجيش بصفة مستشارٍ للقيادة العليا، وتحوَّل بين عشيَّة وضُحاها إلى شخصٍ مشهور، له عربته وخيوله وحرَسه الخاص.
وحين أكمَلَ طوكتو حملته ويورين في حاشيته؛ تمَّ تكليفه بمهمَّة بالقصر، وأصبح يتنقَّل بين أبهاء الأكاديمية العلمية ومكاتب الوزارات؛ أي أصبح له شأنٌ، وأي شأن!
وفي مدَّةٍ وجيزة، تنقَّل بين مناصب عليا عدَّة، وعيِّن أخيرًا مراقبًا في محكمة المراقبين. ولكنَّ أحد زملائه، ويدعى يونشي بوهوا، كان يحمل له الضغينة؛ فكاد له عند كِبار الموظفين، فأُنزل من مرتبته العليا، ليعيَّن محصِّلًا في بلدة ليزهو. واستعاد في ذاكرته كلماتِ قاضي جهنَّم: شمس، قمر، غيمة. وأحسَّ أنها ثلاثتها قد تحققتْ. وبشعورِ مَن أنذر؛ فرَضَ على نفسه سلوكًا: لا يلحقه أيُّ ضَير وتحفُّظ من كلِّ فعلٍ يجلب عليه الأذى.
وكان قد قضى عامَين في هذا المَنصِب إلى أن احتاج ذات يوم الاتصال بالإدارة المركزية. وقد قدَّم إليه أحد المُعاوِنين وثيقةً ليوقِّعها. وكان يورين على أهبة أن يفعل: «هي، محصل منطقة ليزهو.» وبينما هو يعالج الفرشاة في يده، وإذا بمجرًى هوائي يعصف بالورقة ويشوِّش من شكل الحرف الأخير في كلمة لي (رعد) ليحوله إلى ديان (بريق). ودون أن يشعُر، أعطى الأمر رأسًا بإصلاح الخطأ الطارئ.
ولكنَّه، في ليلته تلك، أُصيب بمرضٍ مفاجِئ، أدرك أنه لن يقوم منه؛ فعمد إلى ترتيب بعض شئُونه المنزلية، وودع زوجته وأولاده، ومات.