جنة الشوك
دعاء
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: علِّمني كلماتٍ أتَّجه بهن إلى الله في أعقاب الصلوات الخمس؛ فإني أجد في نفسي حاجةً إلى الدعاء في هذه الأيام الشِّداد.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: سَلِ الله يا بُنَيَّ أن يعصمكَ من صِغَر النفس الذي تضخم له الأجسام، ومن ضيق العقل الذي تتَّسِع له البطون، ومن قِصَر الأمل الذي تمتد له أسباب الغرور.
وكنتُ حاضر هذا الحديث بين الأستاذ الشيخ والطالب الفتى؛ فقلت في نفسي: ما أجدَرَ الشبابَ المصريين أن يتَّخذوا من هذا الدعاء لأنفسهم بَرْنَامَجًا وشعارًا!
فيض
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فسِّرْ لي قولَ القائل: «فاضَ الإناء».
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هذا مجازٌ يا بنيَّ في كلِّ أمر تجاوَزَ حدَّه حتى أصبح لا يُطاق. أَلَمْ تسمع قول الشاعر:
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فإني أعرف أوعيةً لا تمتلئ، وآنيةً لا تفيض.
قال الأستاذ الشيخ مبتسمًا: وما ذاك؟
قال الطالب الفتى: خزائن الأغنياء التي مهما يُصَبُّ فيها من المال فهي ناقصة، وجهنم التي يقال لها: هل امتلأتِ؟ فتقول: هل من مزيد؟ وعقول العلماء التي لا تبلغ حظًّا من المعرفة إلا طمعتْ في أكثر منه.
قال الأستاذ الشيخ ضاحكًا: لقد أصبحتَ حكيمًا منذ اليوم، ولكن تعلَّمْ أنَّ إناءً واحدًا قد يفيض؛ فيصبح مضربًا للأمثال، ومصدرًا للعِبَر، وبعيدَ الأثر في حياة الأجيال. أَلَا تذكر سيلَ العَرِم؟!
حرية
قال أحد أمراء الموصل وكان أريبًا، لأحد نُدَمائه وكان أديبًا: «ما شر ما يُمتحَنُ به الأديبُ؟»
قال النديم وهو يبتسم: «فقدانُ الذوق الذي يجعل أدبه فاترًا خيرًا منه الباردُ.» وأطرق النديم لحظة، ثم قال للأمير: «وما شر ما يُمتحَن به صاحب السلطان؟»
قال الأمير وقد ظهر في وجهه العبوس: «ثناءُ الذين لا يُحسِنون الثناء، يقولون فينا فلا يُصَدِّقهم أحدٌ، ويقولون فينا فلا نصدِّقهم نحن؛ لأنهم يقولون فينا وهم لا يصدِّقون أنفسهم.» قال أحد الجلساء: «فما يمنعكما أنْ تحظرَا على الأديب الذي لا ذوق له أن يحدث أدبًا، وعلى المادح الذي لا فنَّ له أن يحدث مدحًا؟!»
قال الأمير وعلى ثغره ابتسامة خير منها العبوس: «فإنَّ الحرية تأمرنا أن نخلي بين الناس وبين ما يقولون من الجدِّ والهُرَاء.»
حرية
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَمْ تَرَ إلى فلان وُلِدَ حرًّا، وشبَّ حرًّا، وشاخ حرًّا، فلما دنا من الهَرَم آثَرَ الرقَّ فيما بقي من الأيام على الحرية التي صحبها في أكثر العمر؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أضعفته السنُّ؛ فلم يستطِعْ أنْ يحتمل الشيخوخةَ والحريةَ معًا، وأنتَ تعلم أن الحرية تُحَمِّل الأحرارَ أعباءً ثِقَالًا.
أدب
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أليس قد أدَّبَنَا الإسلامُ بأن نجلس بحيث ينتهي بنا المجلس؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: بلى، ولكن إذا انتهى بك المجلس إلى حيث تجاوِر مَن لا تحب أن يعرف السلطانُ أنك جاوَرْتَه، فلا عليك أن تتخطى رقاب الناس، وتجلس حيث تأمن الغضب ولا تتعرَّض للائمة، وقد أدَّبَتْنا الحياةُ بأن الضرورات تبيح المحظورات.
حرية
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما بال فلان يُظهِر سيرةَ الأحرار ويُخفِي سيرةَ العبيد؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ذلكَ أحْرَى أن يُظهِرَه على دخائل الأحرار لينقلها إلى سادته.
حرية
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما بال فلان يرى آراء المسرفين من أهل الشمال، ويسير سيرةَ المسرفين من أهل اليمين؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لأن له عقلَ الحُرِّ وأخلاقَ العبيدِ.
وصول
لم يكن شيئًا ثُمَّ ارتقى حتى أصبح شيئًا مذكورًا، وقد سلك في تصعيده من الحضيض إلى القمة طريقًا وعرةً ملتويةً، يغمرها ضوء الشمس المشرقة المُحرقة أحيانًا، وتنظر إليها الشمس من وراء نقاب من السحاب أحيانًا أخرى، ويحجبها ظلامٌ قاتمٌ فاحمٌ في كثير من أجزائها. فلما ارتقى إلى القمة واطمأن في مكانه منها، نسي ماضيه كله، وأعرض عن مستقبله كله، وعاش ليومه الذي هو فيه.
نسي الماضي فلم يتَّعِظْ، وأعرَضَ عن المستقبل فلم يتحفظ، ومضى مع هواه طاغيًا باغيًا، حتى أخاف الناس من نفسه، وأخاف نفسه من الناس؛ فلم يأمن إلى أحدٍ، ولم يأمن إليه أحدٌ. وإذا هو مضطر إلى أن يُظهِر الحبَّ لقومٍ يبغضهم أشدَّ البغض، وإذا الناس من حوله مضطرون إلى أن يُظهِروا له حبًّا متهالكًا، ويُضمِروا له بُغْضًا مهلكًا، وإذا الأسباب بينه وبين الناس ترثُّ، حتى إذا أيسر الأمر لينتهي بها إلى الانقطاع.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لقد سمعتُ منكَ ولكني لم أفهم عنك، وإنك لتحدثني بالألغاز منذ حين، فماذا تعني وإِلَامَ تريد؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إنَّ حبَّ الاستطلاع إنْ نفع في بعض الوقت فقد يضرُّ في بعضه الآخَر، وما عليك أن تفهم شيئًا وتغيب عنك أشياء! إنما هي مرايا تُنصَب للناس، فَلْينظرْ فيها مَن يشاء وَلْيعرضْ عنها مَن يشاء، وربما كان الإعراض عنها خيرًا من النظر فيها؛ فقد ينظر فيها مَن يحبُّ الاستطلاعَ مثلك، فيسوءه ما يرى لأنه يرى نفسه.
ضمائر
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَا تُحدِّثني عن هذه الضمائر التي تفعل ما تشاء، ثم تستتر وراء أفعالها، وُجوبًا مرةً، وجوازًا مرةً أخرى؛ فهي دانية نائية، وبادية خافية، وهي ملحوظة غير ملفوظة، ومعقولة غير مقولة، وهي على ذلك تكلف الأساتذة والتلاميذ همًّا ثقيلًا، وعناءً طويلًا!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ما أنت وهذه الضمائر البريئة النقيَّة! إنما هي بنات الوهم، قد فرضها العلماء رياضةً لعقول الطلاب، على التحليل والإعراب، وهي لا تؤذي أحدًا من قريب أو بعيد. فإذا علمت علمها، وذلك يسير؛ فَدَعْها وشأنها، وتحدَّثْ عن ضمائر أخرى أشدَّ في حياة الناس خطرًا، وأبعد في أعمالهم أثرًا، تستخفي في أعماق النفوس، عابسةً تُشيع الابتسامَ المريب، ومظلمةً تنشر الضوء المخيف.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لقد عُدْتَ إلى ما دأبتَ عليه من الألغاز، فوضِّحْ لي بعض ما تقول!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ما تقول في ضمائر الأطباء حين يعودون المرضى، وفي ضمائر المرءوسين حين يتلَقَّون أمر الرؤساء، وفي ضمائر الطلاب حين يسمعون دروس الأساتذة، وفي ضمائر بعض الأصدقاء حين يبتسمون للأصدقاء؟
وكنتُ حاضرَ هذا الحديث، فتلوتُ قول الله عز وجل: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ۚ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ۖ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ۚ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا.
جحود
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: قد سمعنا منك وفهمنا عنك، وأعجبنا بك، ولكنا لم نؤمن لما حدَّثتنا به صباح اليوم؛ فقد فسَّرْتَ لنا ما تقرأ في الكتب، ولم تفسِّر لنا ما نرى في الحياة.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى في صوت يكاد يبين عن خوف دفين: وما ذاك؟
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لقد أنبأْتَنا، كما أنبأَتْنا الكتب، بأن مَن قدَّم إلى الناس خيرًا لقي منهم خيرًا، ومَن قدَّم إلى الناس شرًّا لقي منهم شرًّا، وقصصتَ علينا من كتاب المكافأة في ذلك قصصًا رائعة، وأخبارًا بارعة، ولكنا ننظر فنرى الصنيعة لا تكاد تُغرَسُ في قلوب الناس حتى تستحيل إلى شجرة الزقوم، تلك التي وصفها القرآن الكريم، بأنها طعامُ الأثيم، كالمُهْل يغلي في البطون كغلي الحميم.
قال الأستاذ الشيخ وعلى وجهه ابتسامة رفيقة رقيقة: فإن هذه الشجرة كما وصفها القرآن الكريم، تخرُجُ في أصل الجحيم، وليستْ قلوب الناس كلهم جحيمًا؛ وإن منها لجنات يستحيل فيها الشر خيرًا، والمساءة إحسانًا؛ فاجعل ما نقوله لك من هذا عزاءً عما تقوله لك الحياة، وقدِّمْ الخير غير يائس من أن تُجزَى عليه بمثله.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فإني أكره أن أتَّجِرَ بالمعروف، وأُوثِر أن أقدِّم الخير لا ألتمس له جزاءً، وأُوثِر إذا لم يكن بد من الجزاء أن أنتظره من الله الذي لا يذهب العرفُ بينه وبين الناس.
وكنتُ حاضرَ هذا الحديث، فذكرتُ قول مؤرخٍ روماني عظيم قلما ينظر فيه الأدباء المعاصرون: «إنَّ الصنيعة لا تزال محتفظة بقيمتها ما دام شُكْرها يسيرًا؛ فإذا جلتْ عن الشكر جُوزِيتْ بالكفر والجحود.»
حمارا رهان
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أيُّ صَديقَيْكَ شرٌّ: هذا الذي يوَادُّك حين تستغني عنه ويحادُّك حين تحتاج إليه، أم هذا الذي يكلؤك حين ترزؤك النقمة، ويشنؤك حين تفجؤك النعمة؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: كلاهما مريض يا بني يحسنُ أن نلتمس له الطبَّ ونقدِّم إليه الدواء، فأما أوَّلهما فعلَّتُه الأثَرَةُ التي تفسد المروءة، وأما ثانيهما فعِلَّتُه الحسد الذي يلبس ثوبَ الكبرياء.
وكنتُ حاضرَ هذا الحديث، فلم أستطِعْ أن أدافع ضحكًا عريضًا؛ فنظر الشيخ وتلميذه إليَّ في شيء من وجوم كأنهما يتسألان عن هذا الضحك، فقلت: أذكرتماني قصة العباديِّ؛ فقد قيل له: أيُّ حماريك شر؛ هذا الذي يبطئ بك حين تحتاج إلى السرعة، أم هذا الذي يسرع بك حين تحتاج إلى الأناة؟ فقال: «هذا ثُمَّ هذا.»
حلة
همَّ أمير الموصل أن يهدي إلى أحد ندمائه خلعةً نفيسة، ثم غضب عليه لبعض الأمر قبل أن تبلغه الهدية، وكان النديم طويلًا في السماء عريضًا في الفضاء، وقد أراد الأمير أن يغيظه؛ فأهدى خلعته إلى نديم آخَر له كان قصيرًا لا يكاد يرتفع عن الأرض، وضيقًا لا يكاد يشغل من الفضاء إلا حيزًا ضئيلًا. وتلقَّى النديم هدية الأمير جذْلان راضيًا، فلما دخل فيها ضاع بين ثناياها؛ لأنها لم تُفصَّلْ على قده. فأما الأمير وحاشيته فضحكوا وأغرقوا في الضحك، وأما النديم فلم يشك في أن الخلعة قد خلقَتْ له، وأما الناس فقد جعلوا كلما رَأَوه يشيرون إليه، ويقول بعضهم لبعض: انظروا إليه، إنه يرفل في حلة فلان!
وقار
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أترى إلى وقار فلان حين يسعى؟ إن الناس ليعجبون بما يصطنع من الأناة والمهل.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لو استطاع أن يسعى وهو واقف، وأن يتحرك وهو ساكن، لَفَعَلَ.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ليته يأخذ نفسه بمثل ما يأخذ به جسمه من الوقار!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هيهات! ذاك شيء لا يُتاح إلا لأولي العَزْم.
ذاكرة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما أرى ذاكرة الشعوب إلا كهذه اللوحات السود التي تُوضَع للطلاب والتلاميذ في غُرفات الدرس وحجراته يثبت عليها هذا الأستاذ ما يمحوه ذاك، وهي قابلةٌ للمحو والإثبات، لا تستبقي شيئًا ولا تمتنع على شيء.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هذا حق، ولكن وراء هذه اللوحات السود في ضمائر الشعوب، لوحات أخرى ناصعة تحفظ ما يسجِّل التاريخ من أعماق الناس، ومن وراء هذه وتلك كتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، ثم يسأل أصحابها عنها يوم لا تنفع خُلَّة ولا شفاعة. فأضعفُ الناس عقلًا وأوهنهم عزمًا وأكلهم حدًّا هو الذي لا يحفل إلا بلوحاتك السود، والرجل الماهر الأثر ذو القلب الذكيِّ والبصيرة النافذة هو الذي يحفل بما وراءها من هذه اللوحات الناصعة التي يكتب فيها التاريخ، والرجل كل الرجل هو الذي يمتاز بالضمير الحي والقلب النقي والنفس الزكية؛ فلا يحفل بهذه ولا تلك، وإنما يحفل بهذا الكتاب الذي تحصي الحَفَظَة فيه على الناس أعمالهم، لتُعْرَض عليهم بين يدي الله في يومٍ مقداره خمسون ألف سنة مما تعدون.
إخاء
كانا صديقين وفيين، قد صفا بينهما الودُّ، وارتفعت بينهما الكلفة، واشتدت حاجة كليهما إلى صاحبه، حتى لم يكونا يفترقان إلا كارهين، وقد استقام لهما الودُّ الخالص، والحب الصَّفو، ما لم يقدر أحدُهما لصاحبه على شيء من متاع الدنيا، ثم أُتِيح لأحدهما حظ من قوة؛ فأسدى إلى صاحبه طرفًا من خير، فما هي إلا أن تستحيل الصلة بينهما إلى شيء معقَّد أشدَّ التعقيد، فيه الاعتراف بالجميل، والاعتراف بالجميل يكدر صفو المودة. وفيه الاستزادة من النفع، ودخول المنفعة بين الأصدقاء مفسِدٌ للصداقة. وفيه الموْجدة إذا لم يَنَلْ صاحب المنفعة ما يبتغي، وحاجةُ مَنْ عاش لا تنقضي، كما يقول الشاعر القديم، ودخولُ الموجدة بين الأصدقاء، حين لا يبلغ أحدهم من نفع صاحبه ما يريد، أولُ مراتب العداء. وفيه الحسد، والحسد يأكل المودَّة كما تأكل النار الحطب. ثم فيه الجحود، والجحود لا يفسد الودَّ وحده، ولكنه يفسد المروءة أيضًا؛ أيجب إذن أن يعجز الأصدقاء عن أن ينفع بعضهم بعضًا لتصح بينهما الصداقة، وليخلص بينهما الإخاء؟ لا أدري! ولكني أعلم أن ليس أخطر على المودة الخالصة من دخول المنفعة بين صديقين.
إخاء
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إن الشاعر يخيرنا بين الوحدة واحتمال الإخوان على علَّاتهم حين يقول:
فأي الأمرين تحب لي أن أختار؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إن الشاعر لم يخيِّرْك، وإنما ألزمك الخصْلةَ الثانية؛ فأنت لا تستطيع أن تنسلَّ من الحياة الاجتماعية، كما لم يستطِعْ أبو العلاء أن ينسلَّ منها؛ فاحتملِ الحياة الاجتماعية كلها، واصبرْ لما فيها من المِحَن.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وتُرَى إخاء الإخوان محنةً؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أي محنة!
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: كيف ذاك؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إذا وفَّى لك الإخوان امتحنت في وفائهم، وفرضَتْ عليك المروءةُ ألَّا تفتر ولا تبطر، ولا تستغل الوفاء فتشقَّ عليهم بما لا يطيقون، وإن تنكَّرَ لك الإخوان امتحنتَ في تنكرهم وفَرَضَتْ عليك المروءة ألا تقسو ولا تظلم ولا تتجنى ولا تنتظر منهم فوق ما يطيقون. وأنت ممتحن بعد ذلك في نفسك، تفرض عليك المروءة أن تفي لهم إذا وَفَوا، وتصفوا لهم إذا صَفَوْا، وتعرفهم حين ينكرونك وتنصحهم حين يغشونك، وتبرَّهم حين يغدرُونك، وتعطيهم أكثر مما يعطونك، وتسير من إخائهم على مثل الشوك.
صَدِّقني، إن إخاء الإخوان محنةٌ لا يثبتُ لها إلا أولو العزم.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فإني أُوثِر الوحدة.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هيهات! تلك أمنية تُبْتَغى ولا تُنال.
إخاء
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: كيف تقولون في إعراب هذا البيت:
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أما النحويون فيقولون: إن «أخاك» منصوبٌ على الإغراء؛ لأن الشاعر يرغب في حب الإخوان والوفاء لهم.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وأمَّا أنت؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وأمَّا أنا فأعربه منصوبًا على التحذير، وأغيِّر فيه كلمةً واحدةً، فأنشده:
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إنك لشديد التشاؤم.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى:
إخوان
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إني أقرأ في عيون الأخبار أن المأمون قال: الإخوان ثلاث طبقات؛ طبقةٌ كالغذاء لا يُستغنَى عنه، وطبقةٌ كالدواء لا يحتاج إليه إلا أحيانًا، وطبقةٌ كالداء لا يحتاج إليه أبدًا.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: عسى المأمون يا بني أن يكون مصيبًا في أيامه، ولكنك تعلم أننا نعيش في أيامٍ شحَّ فيها الغذاء، وقلَّ فيها الدواء، وانتشر فيها الداء. وأخلقْ بمَن بقي من الإخوان أن يكونوا كما بقي لنا من الحياة: جوعٌ لا يدفعه غذاء، وداءٌ لا يشفيه دواء.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وإذن؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وإذن فاعمل صالحًا، وانتظر الجنة التي وعَدَ اللهُ عبادَه الصالحين، والتي لا يُحرَم أهلها غذاءً، ولا يشكون داءً، ولا يلتمسون دواءً، ولا يُعدَمون أخًا وفيًّا، وصديقًا رضيًّا، وخليلًا صفيًّا.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وإلى أنْ أدخل الجنة إنْ أُتِيح لي دخولها؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: فاتلُ قولَ الله عز وجل: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ ۚ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ.
ذوق
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إنكم لتعلموننا من العلم ما يفسدُ علينا الذَّوْقَ والحُكْمَ جميعًا.
قال الأستاذ الشيخ وهو يبتسم لتلميذه الفتى: وما ذاك؟
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ذاك أني قرأت بيتًا كان طبعي خليقًا أن يُعجَبَ به، لولا أنكم تعلموننا الشك وسوء الظن، والبحث عن الأسباب التي تدعو الشاعر إلى أن يقول، والكاتب إلى أن يكتب. فلما قرأتُ هذا البيت من الشعر وَهَمَّ طبعي أن يرضى عنه ويُعجَب به ويطيل تعمُّقه والتفكير فيه، سألت نفسي كما علَّمتموني أن أسألها: أَلَا يمكن أن يكون مصدر هذا البيت رَغبًا أو رهبًا أو حسدًا؛ فأدركني فتور الهمة وكلال الحَدِّ.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وما هذا البيت؟!
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: هو بيتٌ قاله رجلٌ من ذوي الرأي كان يُرَدُّ دائمًا عن باب الحجاج:
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وما عليك أن يكون مصدر هذا البيت رغبًا، أو رهبًا، أو حسدًا، أو غير ذلك من عواطف الشرِّ والخير؟! أتراك تعرض عن الزهرة الجميلة، والوردة النضرة، والعشب ذي الرواء والبهجة، حين تعلم ما يتَّخِذ البستانيُّ من الوسائل إلى استنباتها وجعلها زينةً للحياة؟
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لا!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: فاستَمْتِعْ بالأدب، وتعمَّقْ معانيه، وذُقْ جماله، كما تستمتع بالحديقة، واجعلْ بحثك عن التاريخ الأدبي كبحث أستاذ الزراعة عن أصول الزهر والشجر، ولا يصرفك عن المتعة، ولا يزهدك في اللذة، ولعله أن يغريك بهما، ويرغِّبك فيهما. أليس من الرائع أن يُخرِج الله الحيَّ من الميت، والجميلَ من القبيح!
معارضة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إني أقرأ في عيون الأخبار لابن قتيبة أن عمرو بن عبيد مرَّ بجماعة عكوف، فقال: ما هذا؟ قالوا: سارقٌ يقطعُ! فقال: لا إله إلا الله، سارق السر يقطعه سارق العلانية. فهل تُنبِئني إِلَامَ أراد؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: كان عمرو بن عبيد زعيمًا من زعماء المعتزلة، وكان زاهدًا في الدنيا مخلصًا للدين، وكان شجاعًا لا يخشى في الحق لومة لائم؛ وما أراد بقوله هذا إلا أن يصف عاملَ البصرة بأنه كان سارقًا لأموال المسلمين، يسرقها جهرةً لأنه لا يخاف أحدًا، منافِقًا في إمضاء حُكْم الله، يعاقب على إثمٍ يسيرٍ يستخفي به صاحبه، وهو يقارف أعظم الآثام وأضخمها. فإن اجتمع لك زُهْد عمرو بن عبيد في الدنيا وحرصه على الدين وشجاعته على مواجهة الحكام بما لا يحبون؛ فانْهَضْ بتبعات السياسة، وإنْ لم تجتمع لك هذه الخصال؛ فالْتَمِسْ لنشاطك سبيلًا أخرى.
معارضة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وإني أقرأ في كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة أن طارقًا صاحب شُرْطة خالد القسريِّ مرَّ بابن شبرمة وطارق في موكبه، فقال ابن شبرمة:
اللهم لي ديني ولهم دنياهم. فاستعمل ابن شبرُمة بعد ذلك على القضاء، فقال له ابنه: أتذكر يوم مرَّ بك طارقٌ في موكبه وقلتَ ما قلتَ؟ فقال: يا بُنَيَّ، إنهم يجدون مثل أبيك ولا يجد مثلَهم أبوك، إنَّ أباك أكل من حلوائهم وحط في أهوائهم. فهل تُنبِئني بمغزى هذا الحديث؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: مغزاه يسيرٌ كل اليسر؛ فقد كان ابن شبرُمة كغيره من أخيار الناس الذين لا تطيب أنفسهم عن متاع الدنيا، فعارض السلطان لأنه كان طامعًا في بعض ما عنده، فلما وُلِّيَ القضاء رضي على السلطان وسخط على نفسه؛ رضي على السلطان لأنه ولَّاه، وسخط على نفسه لأنه لم يستَطِعْ أن يصبر على الحرمان.
ورحم الله ابن شبرُمة! فقد كان له من الشجاعة حظ حسن حين اعترف لابنه بأنه أكل من حلوائهم وحط في أهوائهم؛ لأنه إنْ لم يستَجِبْ لهم حين دَعَوْه وجدوا غيره ممَّن يلي القضاء مكانه، أمَّا هو فلن يجد غير السلطان قوةً تولِّيه القضاء.
فوازِنْ يا بني بين شجاعة عمرو بن عبيد الذي أيأس نفسه من السلطان، فانتهى بمعارضته إلى غايتها، وشجاعة ابن شبرمة الذي أطمع نفسه فيما عند السلطان، فانتهى بشجاعته إلى أن تمثل بيتًا من الشعر.
معارضة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَمْ تَرَ إلى فلان يطالب بالجلاء السريع — متى وضعتِ الحربُ أوزارَها — إلى أوروبا؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إلى أنْ يلي الحُكْمَ أو يشارِك فيه.
معارضة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وثَبَ فلانٌ أمس من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: يئس من رضا الحكَّام؛ فابتغى رضا الشعب.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَمْ يكن يقال: لا معنى لليأس مع الحياة، ولا معنى للحياة مع اليأس.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: فإنْ مُدَّتْ له أسباب الحياة ودعاه الأمل إلى يمين، فوثبةٌ أخرى ترده من رضا الحكَّام إلى ما يريد. ما دام الإنسان قادرًا على أن يذهب ويجيء، فلا جناح عليه في أن يذهب ويجيء!
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: والمبدأ؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: المبدأ وسيلةٌ لا غاية!
وصف
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إني أقرأ في كتاب الكامل للمبرد أن النبي ﷺ قال للأنصار في حديث جريء: «إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع.» فما أدري أيَّ الأمرين أبلغ أثرًا في النفس: أخلاق الأنصار هذه، أم وصف النبي لها؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: كلاهما رائق رائع يملأ النفس إعجابًا وحبًّا، ولكن خلَفَ بعد الأنصار خلْفٌ يكثرون عند الطمع، ويقلون عند الفزع، وانظر حولك فسترى ما يملأ النفوس من ذلك روعةً ورَوْعًا.
عقوق
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَا تحدثني عن سنمار هذا الذي كثر الحديث عنه في هذه الأيام: مَنْ هو؟ وما شأنه؟ وفِيمَ يكثر الناس عنه الحديث؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: «زعموا يا بنيَّ أنه رجلٌ رومي بنى للنعمان بن المنذر قصرًا أو قصرين لا أدري، فلما أتمَّ عمله على أحسن وجه وأكمله؛ رضي النعمان عنه، ولكنه أشفق أن يبني لغيره من الملوك مثل ما بنى له، فأمر به فأُلْقِىَ من أعلى القصر فاندقت عنقه فمات. والناس يضربونه مثلًا لمَن يقدِّم إلى الناس خيرًا وإحسانًا فيجزونه بالشرِّ والمساءة، ولكن في الدنيا أفرادًا كثيرين يمكن أن يُسَمَّى كلُّ واحدٍ منهم سنمار، ولكنه يُلْقَى من حالق فلا تندقُّ عنقه، ويساق إليه الشر فلا يؤذيه، ويُكَاد له الكيدُ فلا يبلغ منه شيئًا، تستطيع أن تسميه سنمار الخالد؛ لأنه لا يبني لأصحاب السطوة والبأس، وإنما يبني للشعوب؛ ولأنه لا يبني للشعوب دورًا ولا قصورًا ولا شيئًا من هذه الآثار التي يبلغها البلى ويدركها الفناء، وإنما يبني لها فنًّا وأدبًا وفلسفةً وعلمًا وإصلاحًا. أَلَا تذكر مَصَارِع النابغين من الأدباء والعلماء والفلاسفة؟ أَلَا ترى أنك لا تزال تستمتع بآثارهم؟!»
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وسيستمتع الناس بعدنا بآثارهم، حتى يَرِث الله الأرض ومَنْ عليها!
فن
قال شهريار ذات يوم لزوجه شهرزاد: تعلمين أني لم أفهم بعدُ لماذا قطعتِ عني قصَصَكِ الجميل!
قال شهرزاد: لأمرين يسيرين؛ أحدهما أني أخذت في هذا القصص أحقن دمي، وأعصم نفسي من الموت، وأصرفك عن سفك الدماء، وقد بلغتُ من هذا كله ما أريد. الثاني أن الجهد الفنيَّ ممتعٌ حقًّا إذا نشأ عن الرغبة والاختيار، بغيضٌ حقًّا إذا نشأ عن الرهبة والإكراه، وقد أخذت نفسي بما تكره ما دعت إلى ذلك ضرورة، وقد آنَ لي أن آخُذ بحظي من الحرية؛ فلا أقصُّ إلا حين أريد أنا، لا حين تريد أنت، ولا حين تريد الظروف.
خصام
قال شهريار ذات يوم لزوجته شهرزاد: تعلمين أنكِ مخطئة حين تقدِّرين أني سلوتُ عن سفك الدماء، وأنكِ مخطئة حين تظنين أنكِ حقنتِ دمك فلا يُرَاق، وعصمت نفسك فلن تُزْهَق؛ وإني لأحس شيئًا من الظمأ إلى الدم، وأخشى أن يكون دمك أول ما يروي ظمئي.
قالت شهرزاد: إنْ كنتَ إنما تخوِّفُني بذلك لأعاود القصص، فلن تبلغ مما تريد شيئًا؛ لأن الخوف إن أنتج الفن مرةً فلن ينتجه مرتين، وإن كنتَ جادًّا في هذا النذير فروِّ ظمأك وانقعْ غُلَّتَك؛ فلن يدلَّ هذا إلا على أن علَّتَك أعضل من أن يشفيها الفن، ولستُ أكره أن يكون دمي أول ما يروي ظمأك؛ فقد تجد من الندم ما يشفي هذه العِلَّة التي عجز الفن عن شفائها. وأنت بَعْدُ مخيَّرٌ بين أن تصبر على هذا الظمأ البغيض فتصبر على ما تكره، وبين أن تنقع هذه الغُلَّة فتضطر بنيك إلى اليتم وتُظمِئهم إلى دمك.
قال شهريار: فإنْ قتلتكِ وقتلتُ بنيك أيضًا؟
قالت شهرزاد: إذن تصبر على الثكل حتى تلتمس الري لظمئك في دمك؛ فتُغمِدَ في صدرك الخنجرَ الذي تريد أن تُغمِدَه في صدورنا.
قال شهريار وقد ظهر عليه روع شديد: حجرًا محجورًا.
موعظة
قالت شهرزاد ذات يوم لزوجها شهريار: تعلم أني لم أفهم بعدُ لماذا لم تَكْتَفِ بالانتقام من زوجك التي خانتك، فأردت أن تنتقم من النساء جميعًا.
قال شهريار: إنها الفتنة! واقرئي إنْ شِئْتِ قول الله عز وجل: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً.
قالت شهرزاد: ليتك قرأت هذه الآية وتدبَّرْتَها قبل أن تقترف ما اقترفت من آثام!
قال شهريار: لقد تغيَّرْتِ وصِرْتِ إلى حال لم أكن أرتقبها منك. قد كنتِ تسلينني بالقصص، وتلهينني بحلو الحديث؛ فأنتِ الآن تحاسبينني على ما قدَّمتُ، وتؤنِّبينني بالوعظ المرِّ.
قالت شهرزاد: لأن السلو عن الإثم لا يكفي لمحوه، وإنما الندم وحده هو الذي يُطهِّر القلوب ويهيِّئ النفوس للتوبة النَّصُوح.
تَجَنٍّ
تلقَّاهم من المدارس الثانوية لا يُحسِنون شيئًا، فتعهَّدهم حتى أحسنوا أشياء كثيرة، وحتى ظفروا بما يظفر به الشباب الممتازون في الحياة الجامعية من درجات وألقاب.
ثم تعهَّدهم حتى اطمأنوا في الحياة إلى ما يحبون.
وكانوا لهذا كله ذاكرين شاكرين، وكانوا من هذا كله متزيِّدين، حتى لم يجدوا سبيلًا للمزيد، ثم ازورَّ عنه السلطان فازورُّوا عنه، وقالوا: جفوتنا حين كان يحسن أن تَصِلَنا.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما أعرف أنهم لقوا منك جفاءً أو إعراضًا.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: «ليس المهم أن تعرف أو لا تعرف، وإنما المهم أن تعلم أن كلمات التجنِّي والتعلُّل والتكلُّف لم تُوضَع في اللغة عبثًا، وإنما وُضِعت لتدلَّ على معانٍ، والمعاني لا تقوم بأنفسها، وإنما تقوم بأنفس الناس!»
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: «أليس قد علَّمنا المعلمون في الكتاتيب أن الإمام الشافعي كان يقول: مَن علَّمني حرفًا صرتُ له عبدًا؟!»
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: «بلى، ولكن الحياة قد علَّمتنا أن الضرورات تبيح المحظورات. ومن المحظورات أن تجفو مَن جفاه السلطان؛ فقد تصدُّك صِلَته عن بعض ما تحب، وتصرف عنك بعض ما تتمنى!»
نعمة مضيعة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لم تتقدَّم بي السن بعدُ، ولكني أرى الناس بين رجلين؛ أحدهما يُحسِن ويدل بإحسانه على الناس، والآخَر يتلقى الإحسان ويجحد حقَّ مَن أهداه إليه.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: نعم، وتضيع النعمة بين مانٍّ بها وكافر لها.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فما تحب لي أن أكون من ذلك؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: مكان منْ إذا أحسن نسي إحسانه، وإنْ أُهدِيَ إليه الإحسان لم يَنْسَ أن عليه دينًا يجب أن يُؤدَّى، والخيرُ أن تُدِينَ وألَّا تُدانَ.
غرور
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وإني اقرأ في كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة «وليَ عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس المدينة سنتين؛ فأحسن السيرة، وعفَّ عن أموال الناس، ثم عُزِل، فاجتمعوا إليه، فأنشد لدرَّاج الضَّبابي:
ثم قال: والله ما أسفت على هذه الولاية، ولكني أخشى أن يلي هذه الوجوه مَنْ لا يرعى لها حقها.» فما تأويل هذا الكلام؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: كلامٌ يقوله كلُّ مَن كان يلي أمرًا ثم عُزِل عنه؛ فكل الناس يرى أنه أقْدَرُ من غيره على تدبير الأمور. وعسى أن يكون عبد الرحمن بن قيس صادقًا، ولكن تتَبَّعْ الآن مَن يُوَلَّون ويُعزَلون؛ فستسمع منهم مثل مقالة عبد الرحمن بن قيس.
غرور
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أقرأتَ كتاب فلان؟ إنه يُنبِئنا بأنه استردَّ حريته ليملأ الأرض حبًّا وسلامًا، بعد أن مُلِئتْ بغضًا وخصامًا!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: نعم، وقد صدق المتنبي حين قال:
غرور
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إذا صُرِف فلانٌ عن السلطان لم يُرَ إلا حزينًا بائسًا، فإذا رُدَّ إليه لم يُرَ إلا سعيدًا موفورًا.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لأنه يرى نفسه حاكمًا بالطبع، ولم يقرأ قول الله عز وجل: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ.
وجوم
مال إليَّ صاحبٌ يسألني: أقرأتَ هذا الفصل؟
قلت: نعم.
قال: مَنْ كاتبه؟
قلت: لا أدري؛ لأنه لم يُعلِن اسمه.
قال: ومع ذلك فقد رضي أن يُوصَف بهذه الأوصاف التي تتملق الغرور.
قلت: ذلك شأنه.
قال صاحبٌ لنا: ماذا يسرُّ أحدكما إلى صاحبه؟
قلتُ: لا يسرُّ أحدٌ منا إلى صاحبه شيئًا.
قال صاحبي: إنما نتحدث عن هذا الفصل الذي كتبه كاتِبٌ يُوصَف بالامتياز، ولكنه لا يسمِّي نفسه، ولا يسمِّيه ناشرُ هذا الفصل.
وأخذت الجماعة كلها تعبث بهذا الكتاب الذي امتاز في رأي نفسه وفي رأي ناشره، ولكنه لم يجد الشجاعة على أن يسمِّي نفسه، ولم يجد ناشره الشجاعة على أن يسمِّيه. لم يكن الفصل سياسة ولا شيئًا مما يخاف، وإنما كان أدبًا أو شيئًا يُشبِه الأدب. فلما مَلَأَتْ الجماعة أفواهها بنقد هذا الكاتب وعيبه والاستهزاء به والنعي عليه، تبيَّنَ لها أنه قد يكون جالسًا بينها؛ هنالك سقط في أيدي القوم، وأدركهم وجُومٌ كاد يطول لولا أن صاحب المجلس قال: سبحان الله!
فتفرَّق القوم، ومنهم مَن يستحيي، ومَن لا حظَّ له من حياء.
تضليل
لم أَرَ قَطُّ شيئًا أجمل ولا أشدَّ روعةً مما رأيتُ اليوم؛ رأيتُ نفرًا عُرِفوا بذكاء القلوب، ورجاحة الأحلام، وامتياز العقول، قد كذبوا على الناس فلم يصدِّقهم أحدٌ، ولكنهم ألحُّوا في الكذب حتى صدَّقوا أنفسهم، ثم خدعوها بالغرور والأوهام، ثم ابتهجوا بهذا الانخداع؛ فكانت وجوههم مشرقة، وثغورهم باسمة، وألسنتهم منطلقة، بما يصوِّر النصر المؤزر، والفوز المبين، وكان الناس الذين لم يؤمنوا لهم ولم يصدقوهم يضحكون من هؤلاء الأساتذة المحنكين الذين أرادوا أن يضلوا غيرهم فأضلوا أنفسهم.
قطط
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لي صديق يحب القطط ويطيل عشرتها، وأكاد أعتقد أنه اكتسب من أخلاقها شيئًا غير قليل.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: فإن عِشْرة الحيوانِ للناس تعلِّمه الأُنْس بعد التوحُّش، وتُكسِبه غير قليلٍ من خصال الحضارة؛ فما يمنع أن يتأثر الناس بالحيوان كما يتأثر الحيوان بالناس! وقد قال الشاعر القديم:
فإذا كان القرين قطًّا، فأحرى أن يكتسب المرء أخلاق القطط.
قصور
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أليس عجيبًا أن تحدُثَ الحوادث، وتلمَّ الكوارث، ويصطرع العالَمُ هذا الصراع العنيف، ونحن مَعْنِيُّون بصغائر الأمور؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: فإن المتنبي لم يُخطِئ حين قال:
ولو استطعنا أكثر من ذلك لفعلنا.
تكريم
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: كيف تجتمع الصفوة الممتازة من المثقفين لتكريم كاتب يُحسِن الخطأَ أكثر مما يُحسِن الصوابَ؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لأن هذه الصفوة تكرِّم اسمَ شخصٍ تعرفه، لا مؤلِّف كتابٍ لم تقرأه.
غيبة
قال أحد الأدباء لبعض زملائه: أَلَا تعجبون لفلان هذا الذي صار صديقًا للناس جميعًا!
قال أحد الزملاء: أخشى ألَّا يكونَ صديقًا لأحدٍ؛ لأن رضا الناس جميعًا شيءٌ لا يُنال.
قال آخَر: أخشى أن يكون عدوًّا للناس جميعًا، وألَّا تكون صداقته إلا لونًا من المداراة والرياء.
قال ثالث: أخشى ألَّا يكون صديقًا إلا لنفسه، يحتمل في إرضائها كلَّ مشقةٍ، ويتكلَّف فيه كل عناء، ومن ذلك تودُّده لمَن يسيغ ومَن لا يسيغ من الناس.
وكنتُ حاضرَ هذا المجلس، فلما سُئِلتُ في ذلك تلوتُ قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللهَ ۚ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ.
ظلم
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما حديثٌ سمعته منك صباحَ اليوم، فلم أفهم منه شيئًا!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وما ذاك؟
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: سمعتك تتحدث عن الظلم المرِّ، والظلم الحلو، والظلم الذي يجمع بين الحلاوة والمرارة؛ فلم أفهم عنك.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: فإنَّ الظلم مرٌّ في قلب المظلوم حين يمسه، حلوٌ في قلب الظالم حين يصدر منه، وهو حلوٌ ومرٌّ في قلوب العاشقين حين يتقارضون الظلم ويجني بعضهم على بعض جنايات الغرام.
رجوع
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَمْ يكن فلان شريك فلان فيما نقض وما أبرم من هذا الأمر؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: بلى، وكان يلتهب حماسةً لما شارك فيه من نقض وإبرام.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فما باله الآن يبرم ما كان نقض، وينقض ما كان أبرم؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لأن للضرورات أحكامها، ولأنَّ الرجوع إلى الباطل أنفع وأجدى من التمادي في الحق.
رعية
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: قرأتُ في بعض الكتب أن المنصور قال لبعض قوَّاده: صدق الذي قال «أَجِعْ كلبك يتبعك، وسمِّنْه يأكلك.» فقال له أبو العباس الطوسي: أَمَا تخشى يا أمير المؤمنين إنْ أَجَعْتَه أن يلوِّح له غيرُك برغيف، فيتبعه ويَدَعَك.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: عفا الله عن المنصور وجليسه! فقد شبَّها الناس بالكلاب، والله عزَّ وجلَّ يقول: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا.
رعية
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لو أن المنصور الذي ضرب الكلب مثلًا لرعيته وضع الأسد موضع الكلب، فكيف كان يقول؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: كان يقول أَجِعْ أسدَك يأكلك، وكان ذلك أحرى أن يغيِّر رأيه في الرعية وسياسته لها؛ فيقيم الأمر بينه وبين المسلمين على الهيبة والحب، لا على الازدراء والإغراء.
رعية
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لو أن المنصور الذي ضرب الكلب مثلًا لرعيته لم يشبِّه رعيته بالكلاب ولا بالأسود، وإنما أخذها كما خلقها الله ناسًا من الناس، فكيف كان يقول؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: كان يقول أَنْصِفْ شعبكَ يُحْبِبْكَ.
رعية
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: كيف يُسمَّى الشعب رعيةً وقد أصبح مصدرَ السلطات بنص الدستور؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هو رعية نفسه بعد أن صار السلطان إليه، وما أكثر الكلمات العتيقة التي تفقد معانيها الأولى وتستبقيها الشعوب مع ذلك لتدل بها على معانٍ جديدة؛ فينشأ عن ذلك كثيرٌ من التخليط!
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وتصدِّق أن الشعب يعتقد أنه سيد نفسه، وأنه مصدر السلطات، وأنه بذلك هو الراعي، وهو الرعية؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: بذلك يحدُّثه الدستور، وهو إنْ لم يصدِّق الدستور اليوم، فقد يصدِّقه غدًا.
رمز
قال شهريار ذات يوم لزوجه شهرزاد: أَلَمْ تقرئي كليلة ودمنة؟
قالت شهرزاد: بلى، قد قرأته وقرأته.
قال شهريار: فلِمَ لَمْ تذهبي في بعض قصصك من الرمز والإشارة مذهبَ بيدبا الفيلسوف؟
قالت شهرزاد: لأنك لم تذهب في التماس القصص مذهب دَبشليم الملك، كان يطلب الحكمة يغذو بها قلبه وعقله؛ فأدَّى إليه فيلسوفه من ذلك ما أراد. وكنتَ غارقًا في بحرٍ من الدم، فاستنقذتك من هذا الغرق بما وجدتُ من وسائل الإنقاذ، ولو أني انتظرتُ حتى أبرم لإنقاذك أسبابًا من الحرير، لكان من الممكن أن تذهب بك أمواج الدم، وأنْ ألتمسك فلا أجد إليك سبيلًا.
غيرة
قال أحد الأدباء لبعض أصحابه: أتدري لِمَ مات فلان؟
قال صاحبه: لا.
قال الأديب: زعموا أن فلانًا غلبه على قلبِ مَن أحَبَّ.
ثم مضت أسابيع والتقى الصديقان، وهمَّ أحدهما أن يقول لصاحبه شيئًا، ولكنه أمسك عن القول؛ لأنه ذكر أن الغيرة قد تقتل الناس أحيانًا.
مجون
ما زالتِ امرأته تُظهِر له الغيرةَ حتى أغرته بالإثم فتورَّط فيه؛ وما زال هو يلوم ابنه على العبث حتى دفعه إليه، وما زال ابنه ينهى صاحبه عن عِشْرة خليلة السَّوء حتى اتَّخَذَها له زوجًا. أَلَيس من الخير أن يتدبَّرَ الناسُ مجونَ أبي نواس حين قال:
فربَّ مجون أدنى إلى الموعظة من الحكمة البالغة.
تلطف
سُئِلَتْ: أي المصريين أحب إليها وآثَرُ عندها وأحَقُّ بإعجابها؟ فسَمَّتْ قومًا وأثنت عليهم ما عسى أن يكونوا أهلًا له. ولو قد زارت مصر في وقتٍ آخَر، وأُلْقِي عليها السؤال نفسه؛ لسَمَّتْ قومًا آخَرين وأثنت عليهم بما عسى أن يكونوا أهلًا له. فهي لا تثني على أولئك وهؤلاء، وإنما تتلطف للسلطان، فأحرى ألَّا تلقى مثل هذه الأسئلة على الأجانب، لولا أن حاجة المصريين والضعفاء منهم خاصةً إلى الثناء تكلفهم وتكلف غيرهم شططًا.
هجرة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: عرَض علينا «جوفينال» عرضًا رائعًا الأسبابَ التي دفعته إلى الرحيل عن روما، وكلها يرجع إلى فساد الحياة العقلية والاقتصادية، وإلى بطر الأغنياء، وبؤس الفقراء، واضطراب الأمن. أَلَا ترى أننا في حاجةٍ إلى جوفينال يفصِّل لنا الأسباب التي تدفعنا إلى ترك القاهرة؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: تريد أن تقول الأسباب التي تدفعنا إلى ترك مصر؟ ولو قد ذهبتَ إلى غير مصر من أقطار الأرض لاحتجْتَ إلى جوفينال يفصِّل لك الأسباب التي تدفعك إلى تركه.
كما يقول لبيد. وإذا احتجت إلى جوفينال ليفصِّل لك أسباب الهجرة التي نشعر بالحاجة إليها، فأنشد قول أبي العلاء:
هجرة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَم يقل شاعر قديم:
أَوَلَمْ يقل شاعر آخَر:
أَوَلَمْ يقل بشَّارٌ:
أَوَلَمْ يقل المتنبي:
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إنك لكثير الرواية منذ اليوم، فما ذاك؟
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ذاك أن إقامة الرجل الكريم على الضيم الذي لا يرضاه لا تعجبني.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: فإنْ كان الرجل الكريم يحب وطنه، ويُؤثِر الجهدَ والعناءَ فيه على الراحة والرضا في غيره من الأوطان؟ واقْرَأْ إنْ شئتَ قول الشاعر القديم:
تصوير
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لا أعرف شيئًا أبرعَ، ولا أبلغَ، ولا أدقَّ في تصوير بؤس البائسين، وثراء المثرين، والتفاوت المخزي بين الطبقات من هجاءِ «جوفينال».
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أَلَا أدلُّك على شيء هو أبرع، وأبلغ، وأدقُّ تصويرًا لذلك من هجاء «جوفينال»؟! انْظُرْ إلى حياة المصريين.
رُقِيٌّ
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما بالُ عظائم الأمور تُسنَد إلى قوم لا يعقلونها، ولا يقدرون على النهوض بها، ولا بأيسر منها؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لأن السياسة كالطبيعة؛ لها حكمة لم تستَطِعْ عقول الناس أن تفهم حقائقها بعدُ.
رُقِيٌّ
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما بالُ الذين تعجزهم صغائر الأعمال يكلفون النهوض بعظائم الأمور؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لأنهم خُلِقوا للعظائم، وخُلِق غيرهم للأمور اليسيرة.
رُقِيٌّ
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أعرف قومًا يكلفون يسيرَ الأمر فيخفقون، ويرْقَى بهم ذلك حتى يكلفوا جليلَ الأمر!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هؤلاء قومٌ يرْقَى بهم العجزُ حين يقعدُ بهم الإعجاز.
رُقِيٌّ
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: يقول الطغرائي في لاميته المشهورة:
فما عسى أن تكون هذه الحقوق التي لا يستطيع صاحبها أن يؤديها إلى العلا إلا أن يكون كثير المال، عظيم الثراء؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إنها تختلف باختلاف المزاج؛ فمِن الناس مَن يرى أن من حق العلا عليه أن يُطعِمَ الجائعَ، ويكْسُوَ العاريَ، ويرْوِيَ الظمآنَ، ويُعَلِّمَ الجاهلَ، ويُعِينَ المريضَ على التماس الطب لعلَّتِه. ومن الناس مَن يرى أن من حق العلا عليه أن يغشى حانات اللهو، وأندية القمار. وهؤلاء أحرى أن يكثروا، وأجدر أن يظفروا من العلا بما يريدون.
رُقِيٌّ
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَمْ نكن نُلَقَّن في نضرة الصبا أنَّ مَنْ طلب العلا سهَرَ الليالي؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ذلك حين تكون العُلَا غاليةً بعيدةَ المنالِ، فأما حين ترخصُ فإنها تُنَال بأيسر من سهر الليالي.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وما ذاك؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إسداء الثناء إلى غير الأكفياء، وإهداء الهجاء إلى ذوي الغناء، وقذف المحصنات، والخوض في الأعراض بغير الحق، وجفوة الصديق، وخيانة الخليل.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وترى ذلك ثمنًا يسيرًا؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أيسر من الرمل على ساحل البحر، ومن الماء على شاطئ النيل.
تعريض
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إِلَامَ أراد المتنبي حين قال:
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إنما أراد إلى أن «سيف الدولة» كان خليقًا باسمه؛ لأنه كان يحمي ثغور المسلمين من عدوان الروم، على حين كان قومٌ آخَرون في بغدادَ يتكثرون بما لا غناءَ فيه ولا طائلَ تحته، من هذه المواكب الفخمة التي كانت تزخر بها عاصمة الخلافة.
ضحك
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَا يغيظكَ قول المتنبي فينا:
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وما يغيظني من ذلك؟! أَسْخَطَ كافورُ المتنبيَّ؛ فقال شر ما علم، وأرضاه فقال خير ما علم. وصدق رسول الله: «إنَّ من البيان لَسِحْرًا، وإنَّ من الشعر لَحِكَمًا».
ضحك
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أحق أن الأمم ضحكَتْ من جهلنا قديمًا كما يقول المتنبي؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: كما ضحكنا وكما لا نزال نضحك من جَهْل أممٍ غيرنا.
انتصار
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما الذي يعجب الناس من قول المتنبي:
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: يعجبهم منه يا بني أنه يعرض صورةً رائعة في دِقَّتها وصِدْقها وإيجازها لحقيقة إنسانية خالدة، وهي أن شجاعة كثير من الشجعان، وانتصار كثير من المنتصرين، وتفوُّق كثير من المتفوقين، ليستْ إلا تكثُّرًا وغرورًا، فإذا جاء الخوف قلَّ الشجاع وندر الانتصار، وأصبح التفوق أمنية لا تُنال إلا في عسر شديد. وليتك تقرأ قصة «دون كيشوت» للكاتب الإسباني «سرفنتس»، أو قصة «ترتاران دي ترسكون» للكاتب الفرنسي «ألفونس دوديه»؛ لتعلم أن هذين الكاتبين العظيمين لم يزيدا على أنْ شرَحَا قول المتنبي:
ذوق
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أليس مما يعجب ويروق أن تُعْزَفَ موسيقى «موزار» و«بتهوفن» ترويحًا للرفق بالحيوان؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وأي غرابة في ذلك وموسيقى «موزار» و«بتهوفن» تُعزَف ترويحًا للرفق بالبائسين من الناس! وهل تختلف طبيعة البؤس حين يلمُّ بالإنسان أو بالحيوان؟
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فإني أرى في هذا العطف رَفْعًا للحيوان إلى منزلة الإنسان.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وأنا أرى فيه نزولًا بالإنسان إلى مرتبة الحيوان، ومدار الأمر كله على الذوق.
رفق
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَمْ أعلم أن الحكومة قد أصبحتْ أَرْأَفَ بالحيوان من أبي العلاء؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ماذا تقول؟! أتراها حرَّمَتْ ذَبْحه وأكله، وحفظت اللبن على البقر والشاة، والبيض على الدجاج، والعسلَ على النحل؟!
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لا، ولكنها أذنَتْ فأُقِيمتْ ليلةٌ موسيقية ساهرة لمعونة الذين يرفقون بالحيوان.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لو خُيِّرَ الحيوانُ لاختار الحياة والعافية على الموسيقى الرقص.
إيثار
قال بعض الولاة لبعض جلسائه: أَبْغِنِي رجلَ صِدْق أركن إليه فيما يعنيني من الأمر.
قال الوالي: وأين أنت — أصلحك الله — من فلان؟! فإنه رجلُ صِدْقٍ، ورجلُ حَزْمٍ، ورجلُ عَزْمٍ، ورجلُ عَدْلٍ.
قال الوالي: عد عنه؛ فإني أوثر به نفسي، وأركن إليه في خاصَّة أمري. وبلغ الحديث فلانًا هذا، فقال:
وكان معه صديق فقال: إلى أي حد يستقيم للوالي أن يُؤثِر نفسه بِكَ من دون المدينة؟
قال فلان: أليس في صلاحه صلاح المدينة!
نفع
قال أحد الأدباء لأحد أصحابه: لقد قطع فلان أسباب المودة بينه وبين ذوي معرفته جميعًا، إلا واحدًا منهم.
قال له صاحبه: لعله ينتظر منه نفعًا؛ فهو يستبقيه حتى يبلغ آخَر ما عنده، ثم يُلحِقه بغيره من الناس.
كفاية
قال أحد الوزراء لبعض ثِقَاته: إني أريد أنْ أوَلِّيَ فلانًا بعض العمل.
قال له صاحبه: نعم، بشرط أن تمسكه عندك وتبيح له أن يستخلف على عمله مَنْ يستطيع أن ينهض به.
قال الوزير: وكيف كان ذلك؟
قال جليسه: لأن فلانًا يُحسِن الانتفاعَ، ولا يُحسِن النفعَ.
رِقٌّ
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَا تفسِّر هذا الصراع الذي نحن فيه منذ أعوامٍ طويلةٍ، والذي يُفسِد علينا أمورنا كلها؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وماذا تريد أن أفسِّر لكَ! إنه الصراع بين الحرية التي تريد أن يكون جنودها أبطالًا، والمنفعة التي تريد أن يكون جنودها أَرِقَّاء.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ومن أجل ذلك قَلَّ أبطال الحرية وكثر طلاب المنفعة؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هو ذاك!
رسالة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَا تُنْبِئني عن كلمة «الرسالة» هذه التي يلوكها كل إنسان حين يريد أن يعبِّر عن المهمة؛ فللكاتب رسالة، وللشاعر رسالة، وللعالم رسالة، ولصاحب السياسة رسالة أيضًا، وما أعرف أن اللغة تؤدي بكلمة «الرسالة» هذا المعنى الجديد؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هذه كلمة أذاعها في لغتنا الحديثة مزاجٌ من الجهل والغرور: الجهل باللغة العربية، والغرور الذي يخيل إلى كل إنسان أنه نبي قد أرسله الله برسالة يعلِّم بها الناس شيئًا، أو يحدث بها في الناس حدَثًا. وإذا اجتمع الجهل والغرور على أمةٍ، دفعاها إلى أكثر من الخطأ اللُّغَوِيِّ واستعمال الألفاظ في غير مواضعها.
جحود
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إني أقرأ في شعر «كاتول» اللاتيني «لا تعملْ خيرًا، ولا تنتظرْ شكرًا؛ فقد عمَّ الجحود وأصبح الإحسان هباءً! ماذا أقول! بل أصبح ثِقَلًا ومصدرًا للضغينة. لقد بلوت هذه التجربة المرة حين رأيت أشد الناس حقدًا عليَّ وبغضًا لي مَنْ كان يراني منذ حين مصدرَ نِعْمته وحاميه الوحيد.»
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لم تتغيَّر أخلاق الناس منذ قال شاعرك اللاتيني هذا الشعر، ولكنه صاحبُ عاجلة لم يكن ينتظر من الآجِلة شيئًا، أما نحن فقد أدَّبَنَا اللهُ أدبًا آخَر، واقْرَأْ إنْ شئتَ قوله عزَّ وجلَّ: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
استخارة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لن أشهد محاضرةً عامةً بعد اليوم.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: حجرًا محجورًا، وما ذاك؟
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: سمعت اليوم محاضَرَةً لم أسمع قَطُّ أسخف منها، ورحت إلى بيتي ضيقًا بما سمعتُ، وأردت أن أخرج من هذا الضيق، فلم أَكَدْ أنظر في أول كتاب وقعَتْ عليه يدي، وكان ديوانًا لشاعرٍ لاتيني، حتى رأيته يصوِّر ضيق نفسه بهذه القراءات الأدبية العامة التي كانت تمتلئ بها روما في عصره؛ فقلت: إنَّ الله قد خار لي وآذنني بأن من الحمق إضاعة الوقت في الاختلاف إلى المحاضرات.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: كان شاعرك اللاتيني هجَّاء، وكان يلتمس لنفسه المعاذير لما كان يطرق من فن الهجاء. فأما أنت فطالب علم تستطيع أن تختلف إلى المحاضرات جيدها ورديئها، ممتازها وسخيفها؛ فإنك واجدٌ فيها بعض الفائدة، تجدها فيما تسمع من المُحَاضِر أحيانًا، وفيما ترى من المستمعين دائمًا.
معبد
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لقد راقني ما أرى من سخرية الشاعر اللاتيني «جوفينال» حين يتحدث إلى المال، بأنَّ من حقه أنْ يُقَام له معبدٌ كتلك المعابد التي أُقِيمت للسِّلْم والشرف والفضيلة؛ لأن المال يتفوَّق على هذه الخصال جميعًا. ما يمنع الناسَ أن يفكروا الآن في إقامة معبدٍ للثراء؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أخشى ألَّا يجد الناس من الوقت ما يكفي لهذا التفكير فضلًا عن إقامة هذا المعبد؛ فإني أرى الشعوب قد أخذت تكفر بالمال وتخرج على سلطان الثراء.
وصف
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: كأنما كان الشاعر اللاتيني «جوفينال» يصوِّر عصرنا حين تحدَّث عن هذا الغني الذي تطيب نفسه عن مائة ألف درهم يُنفِقها في الميسر، ويبخل بقميص يقي خادمه ألَمَ البرد.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ما دام في الأرض سادة يملكون مئات الألوف، وخَدَمٌ لا يملكون شيئًا، وفُرَصٌ للَّهْو يُنفَق فيها المال؛ فكل العصور واحدة، وإن طال الزمن!
هجاء
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أيُّ فنون الآداب أحق أن يزدهر وينفق في هذا العصر الذي نحن فيه؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لا أدري! ولكننا في عصرِ انتقالٍ، أشدُّ فنون الأدب له ملاءَمَةً فَنُّ الهجاء.
رقابة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَا تعجب معي بقول الشاعر اللاتيني «جوفينال»:
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إن شاعرك اللاتيني لم يُرِدْ إلى رقابة المطبوعات، وإنما أراد إلى رقابة الأخلاق، ومهما يُرِدْ فهو صادق كلَّ الصدق.
خادم
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَمْ يدهشك ما قاله أحد الوزراء لبعض الصحفيين من أنه مستعد للعمل في أي وزارة، كأنه الخادم يكلِّفه سيده ما يشاء، فيقبل غير متكرِّه ولا متمنِّع؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وما يدهشك من ذلك! وإنما الوزير خادم الملك والشعب، يضعانه حيث يشاءان، ويكلفانه ما يحبان.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ولكن الوزير من زينة الدولة.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: والخادم الأنيق من زينة البيت.
وعود
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَا يعجبك قول الشاعر اللاتيني «كاتول»:
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: كما يعجبني قول كعب بن زهير:
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وأي وعود الرجال أشبه في ذلك بوعود النساء.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وعود الساسة حين يطلبون النيابة عن الشعب، أو النهوض بأعباء الحُكْم.
نزاهة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما أجملَ هذه الصورة التي أراها عند الشاعر اللاتيني «جوفينال» حيث يقول:
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وقد مُدِحَتِ النزاهةُ أثناءَ القرون منذ شاعرك اللاتيني، ولم تُمدَحْ قَطُّ في عصرٍ من العصور كما تُمتدَح في هذه الأيام، ولكنها على ذلك مقرورة ترتعد من البرد!
تخليط
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما بال فلان يخلط في كتابه عن حياة النبي ﷺ تخليطًا شديدًا؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: عرض لما يحسنُ من الأمر، وقال فيه بغير عِلْمٍ.
منفعة
كان يبغضه أشد البغض، فأصبح يتهالك عليه أشد التهالك، وكان فصيحًا كل الفصاحة في تعليل ما أظهر وأضمر من بغضٍ، وهو فصيح كل الفصاحة في تعليل ما يُظهِر من تهالك وحب، وهو يصدق نفسه في الموقفين جميعًا، ولكن الناس لا يصدقونه، وإنما يؤمنون بأنه أبغض للمنفعة وأحبُّ للمنفعة، وبأي وحي النفوس يكذب النفوس أحيانًا، والغريب في هذا كله أن الناس أعلم منه بدخيلة النفس وسرِّ الضمير.
أخلاق
أقبلوا يواسون مَن صُرِفَ عنه الحكم، وكانوا جماعةً ضخمة يكاد يمتنع فيها التنفس لولا أنها كانت تسعى أو تزحف تحت السماء في الهواء الطلق، وقد اكتظت بها الشوارع والميادين، ووقفت لها حركة المدينة.
قال قائل لصاحبه: أليس فلان قد صُرِفَ عن الوزارة أو صُرِفتْ عنه الوزارة، فما هذه الجماعة الضخمة؟ وما هؤلاء الذين يسعون إليه اليوم وكانوا لا يرونه أمس ولن يروه غدًا إلا نكثوا رءوسهم وغضوا أبصارهم؟
قال صاحبه: صُرِفَ عنه الحكم اليوم وقد يُرَدُّ إليه غدًا، وللناس آمال لا يحبون أن تنقطع، وليس كل الناس يحب رغبةً أو رهبةً؛ فقد يكون منهم مَن يحب مخلصًا في الحب، ومَن يجامل أو يواسي مخلصًا في المجاملة أو المواساة.
قال ثالث: ومن الناس مَن يبغضك ولكنه يواسيك؛ لأنه يريد أن يُظهِر لنفسه أن رجولته أكبر من البغض.
قال رابع: ومن الناس مَنْ لا يكبر في نفسه إلا إذا أظْهَرَ نفسَه للناس كبيرًا بعض الشيء.
قال خامس: عجبت للذين يشيعون الجنائز ويستطيعون أن يفكروا في شيء غير الموت.
كساد
قال أحد الصديقين لصديقه في بعض المحافل: أَلَا ترى إلى فلان يلحظ صديقه العزيز عليه، الأثير عنده، لحظًا خفيًّا ولا يحييه؟!
قال صاحبه: لأن رئيسه يرقبه من بعيد.
قال الصديق: وإذن؟
قال صاحبه: وإذن فهو يثق من صديقه العزيز عليه، الأثير عنه، برحابة الصدر، ويخاف من رئيسه ضيِّق الخلق.
قال الصديق: والشجاعة؟
قال صاحبه: قد كسدت سوقها في هذه الأيام.
عفة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما أجملَ هذا البيت الذي يُنسَب إلى عنترة:
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إنه لجميل حقًّا، ولا سيما حين يُنشَر في هذه الأيام.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: في هذه الأيام! كيف تقول؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ألستَ قد تعلمت في المدارس والجامعة أن الأشياء تتمايز بأضدادها، وأن شاعرًا قديمًا قد أنشد:
ثعالب
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما هذه النواطير التي قصد إليها المتنبي في بيته الوَقِح:
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ما زال الحق عندكم وَقِحًا، وقائله مسرفًا في الجراءة، ولكن هذا لا يغيِّر من الحق شيئًا؛ فقد نامت نواطير مصر عن ثعالبها، وما زالت هذه الثعالب تأكل وتشرب حتى يدركها البشم، فلا يزيدها إلا نهمًا، كأنَّ بطونها تلك الآنية التي أشارت إليها الأساطير اليونانية والتي ليس إلى ملئها سبيل. فأما النواطير فَسَلِ المتنبي عمَّا أراد بها، أما أنا فأفهم منها الشعب، وأظنك لا تُنكِر أن الشعب ما زال نائمًا.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لو نام الشعب لما أكلت الثعالب ما يقيم أَوَدَها فضلًا عن أن يضطرها إلى البشم. ما زال الشعب يكدُّ ويكدَح، وما أعرف أن النائم يُحسِن كدًّا أو كدحًا.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: فقُلْ إنْ شِئْتَ إن الشعب يقظان نائم؛ يقظان لأنه يعمل وينتج، ونائم لأنه لا يحمي ثمار عمله من هذه الثعالب التي تأكل منها حتى تبشَمَ؛ فلا يزيدها البشم إلا نهمًا.
فرار
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما هذا البيت الذي سمعتك تنشده حين فرغْتَ من صحف الصباح:
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ألم تتعلم في المدارس الثانوية أنه من شِعْر حسَّان يقوله في الحارث بن هشام حين شهد بدرًا مع قريش، فلما دارت عليهم الدائرة فرَّ وترك الأحبة صرعى لم يقاتل دونهم، وفيهم أخوه أبو جهل عمرو بن هشام! وانظر حولك فسترى الذين يفرُّون عن الأحبة حين يجدُّ الجدّ ُكثيرين، يدفعهم إلى الفرار الرعب حينًا، والرهب حينًا آخَر.
كيد
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما هذا البيت الذي تُكثِر ترديدَه منذ اليوم:
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هذا بيت قاله الفرار السلميُّ، وكان رجلًا يغري بالحرب، حتى إذا شبَّ نارها وأذكى أوارَها، لاذ بالفرار وتغنى براعته في الأمرين جميعًا. وانظر حولك فسترى أن الذين يمكن أن تسميهم بالفرَّار السلمي كثيرون، ولكنهم يفرِّون ويفرِّون ولا يتغنون، تبلدت قلوبهم فلا تحسُّ، وانعقدت ألسنتهم فلا تنطق، وأُشرِبت نفوسهم حب الكيد الصامت، فهي تكيد ولكنها لا تقول.
كيد
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما تأويل قول الشاعر:
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: تأويله أن تارك الصلاة عَمْدًا يعصي الله معصية واحدة، وأن مقيم الصلاة كيدًا يعصي الله معاصي كثيرةً؛ يريد أن يخدع الله والله لا يُخدَع، ويريد أن يخدع الناس، وخِدَاع الناس إثمٌ، ويريد أن يتخذ الله وسيلةً والله غاية الغايات، وإليه تُبتغَى الوسائل. فكيف به إذا اتخذ الله وسيلة لأعراض الدنيا وتضليل الناس! صدق الشاعر:
صفح
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إني أقرأ في بعض ما يقول «نيتشه»: إن كثيرًا من الناس لا ينبغي أن نصافحهم بيدٍ رفيقة، وإنما تبسط إليهم يد كبرْثن الأسد، وأريد أن تكون فيها مخالب حادة. فمَنْ عسى أن يكون هؤلاء الناس؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هم أكثر الذين تلقاهم مصْبِحًا ومُمْسِيًا؛ فيلحظونك بعيون ملؤها الودُّ، ويبسمون لك عن ثغور مشرقة رفيقة ومن ورائها الظلمة والعذاب، وهم الذين يُحسِنون التودُّدَ إليك والتلطف لك، ولا سيما حين تحدُثُ الأحداث وتلمُّ الخطوب.
ولكن «نيتشة» يا بني صاحب قسوة وسطوة وعنف، فَاقْرَأْ إنْ شِئْتَ قول الله عزَّ وجلَّ: وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ.
سخرية
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: قرأت فيما قرأت من شعر «كاتول» مقطوعةً يهيئ فيها نفسه للموت، بل يحثُّ فيها نفسه على الموت؛ لأن فلانًا وفلانًا من مواطنيه قد رَقيَا إلى منصب القنصل؛ فأعجبتني سخريته اللاذعة.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: كما أعجبني قول الشاعر العربي:
تقدير
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما بال الناس يضطربون للتولية والعزل في مصر أكثر مما يضطربون لهما في البلادة الحرة الأخرى؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لأنهم لا يزالون قدماء العقل والشعور، يرون في التولية نعمة وفي العزل نقمة، ويذكرون نكبة البرامكة وما يشبهها من أحداث الدهر القديم. فانتظر بهم حتى يذوقوا طعم الديمقراطية الصحيحة؛ فيومئذٍ سينظرون إلى التولية والعزل كما ينظرون إلى الجو والمطر.
ابتسام
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أليس يعجبك قول المتنبي:
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: بلى! إنه ليعجبني كل الإعجاب، ولا سيما حين ينشده الذين يصوِّرون الحبَّ بابتسامهم أكثر مما يصوِّرون الودَّ الصحيح. وأكبر الظن أن المتنبي نفسه كان من هؤلاء حين قال هذا البيت.
تملُّق
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَا ترى إلى فلان قد كان أبعد الناس عن التملُّق، فلما تقدَّمت به السنُّ جعل إمعانه فيه يزداد من يوم إلى يوم؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: كان يعتمد على نفسه، ما واتته قوة الشباب، فلما أدركته الشيخوخة اتخذ من التملُّق عصًا يدبُّ عليها.
كذب
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَا يغيظك هذا الثناء الذي لا يصدُّقه قائلوه، ولا سامعوه؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: كلا يا بني؛ لأني أعلم أن الناس أحرارٌ في أن يقيموا حياتهم على الكذب، ونحن أحرارٌ في أن نعرف ذلك منهم أو ننكره عليهم.
مروءة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَا تحدثني عمَّا ألمَّ بقومٍ كانوا كِرَامًا أعزَّةً ينهون عن الضعة، وينأَوْنَ عن الصغار، فلما أدركتهم الشيخوخة أقبلوا متهالكين على ما كانوا يكرهون ذِكْره من صغائر الأمور؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إن تقدُّم السن لا يُضعِف الجسمَ وحده، ولكنه يُضعِف أيضًا العقول والنفوس والمروءة، إلا قليل من الناس يكادون يُحْصَوْنَ في كلِّ جيل.
نفاق
كُلِّفَ عملًا لا يُحسِنه ولا يستطيع النهوض به، يقصر به عن ذلك عقله وسنُّه جميعًا، ولكنه مُنِحَ أَجْرًا ضخمًا، ورُفِع إلى مكان ممتاز؛ فشك غير طويل بين الأمانة التي تحرمه ما يُعرَض عليه من خير، والخيانة التي تُرضِي طموحه إلى المال والامتياز، ولكنها تضيع على الشعب حقوقه ومنافعه؛ فآثَرَ الثانية لأنه يحرص على إرضاء أهوائه وشهواته أكثر مما يحرص على إرضاء الحق وإيثار المنفعة العامة.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ومع ذلك فالناس يَلْقَوْنه بالتجلة ويثنون عليه بألسنتهم وأقلامهم.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: نعم، ولكنهم يزدرونه في نفوسهم، ويمقتونه في ضمائرهم، وتلعنه قلوبهم. وهل رأيت أمور الناس تدور على غير الكذب والنفاق؟!
نفاق
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: مَن عسى أن يكون هذا الرجل الذي يقول فيه خالد بن صفوان إنه ليس له صديق في السرِّ ولا عدو في العلانية؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: قد علمتُ أنه شبيبُ بن شيبة.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: قد والله علمتُ ذلك، وكأني لم أُحْسِنْ توجيه السؤال؛ فعلِّمني كيف يستطيع الرجل أن يضع نفسه بحيث لا يكون له صديقٌ في السر ولا عدو في العلانية.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: سبيل ذلك أن يملأ الرجل قلبه أثرة صادقة لا تفارِقه، ويسبغ على وجهه ابتسامة كاذبة لا تفارِقه؛ فهو إنْ فعَلَ ذلك لم يحب إلا نفسه في السر والعلانية، ولم يبغضه الناس في ظاهر ما يكون بينهم وبينه من الصلة.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وتظن ذلك يسيرًا سهلًا؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هيهات! إن من النفاق ما هو أصعب احتمالًا على أصحابه من الصراحة.
نفاق
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: متى يحسن رأيك في الناس؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: متى حسنَ رأي الناس في أنفسهم.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لم أفهم عنك.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لو حسنَ رأي الناس في أنفسهم لما أقاموا حياتهم على النفاق.
حياء
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أتعرف أبلغَ من هذا البيت أثرًا في النفس:
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: نعم، قول لبيد:
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فإني لا أفهم عنك ما تريد منذ اليوم!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: فإن الذين كانوا يستحيون إخوانهم أمواتًا كما كانوا يستحيونهم وهم أحياء قد ماتوا، كما يقول العامة الآن، وبقي بعدهم هذا الخلف الذي يشبهه لبيدٌ بجلد الأجرب، والذي لا يستحيي من حي ولا من ميت، ولا يستحيي من نفسه ولا من الله.
إشاعات
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إِلَامَ أراد الشاعر القديم حين قال:
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أراد إلى مِثْل ما نغرق فيه بين حين وحين من الباطل المذاع، والزور المشاع، والبهتان الذي تفسد له الحياة العامة، وتسوء له الصلات بين الناس، وتقوم عليه مع ذلك أو من أجل ذلك أمور الأمة.
نهضة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما تقول في شعب يجري أمره على جهل الشباب وطيشهم من جهة، وعلى ضعف الشيوخ وحمقهم من جهة أخرى؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أقول إنه شعب ناهض يسعى إلى المجد بخطو سريع!
حقوق
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: متى تصلح الدنيا ويصلح أهلها؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لا أدري! وما أحسب أن الدنيا تصلح أو أن أهلها يصلحون في يوم من الأيام، ولكن هناك مقدارًا من الخير لا يستقيم للناس بدونه أمر.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وما ذاك؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أَلَّا تُتَّخَذ حقوقُ الشعب ومنافعه مَطِيَّةً إلى قضاء المآرب وإرضاء الشهوات.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وهل إلى ذلك من سبيل؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: نعم، يوم يعرف الشعب حقوقه ومنافعه، ويبين لساسته وقادته أنه عليها حريص ولها مؤثر، وأنه مستعد لأن يضحي في سبيلها بما تضحي به الشعوب الكريمة في سبيل الاحتفاظ بالحقوق والمنافع العامة.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: هيهات!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: قد كنتُ أظن أن هذه الكلمة إنما تجري على ألسنة الشيوخ، فأما ألسنة الشباب فتجري عليها كلمات أخرى!
صدق
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ألستَ قد علمتنا صباح اليوم أن الخبر شيء يحتمل الصدق والكذب دائمًا، وأن هناك مرجحات تميل به إلى الصدق حينًا وإلى الكذب حينًا آخَر؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: بلى، وما إعادتك في المساء لحديثٍ جرى في الصباح؟
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فإنك قد نسيتَ مرجحًا يرتفع بالأخبار إلى الصدق الذي لا شك فيه.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وما ذاك؟
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: هو بطش الحاكم المستبد فيما مضى، وظروف الحرب في هذه الأيام. وما أذكرني ذلك إلا قول أبي العلاء:
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: فإن صارم الحاكم المستبد وحكم الحرب لا يصَدِّقان خبرًا كاذبًا، ولا يُكذِّبان خبرًا صادقًا؛ لأنهما يستطيعان أن يراقبا القلب واللسان، ولا يجدان سبيلًا إلى مراقبة النفوس والقلوب.
صلة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: يُرْوَى عن عثمان — رحمه الله — أنه قال: «كان عمر يمنع أقرباءه ابتغاء وجه الله، وأنا أعطي قرَاباتي لوجه الله، ولن يُرَى مثلُ عُمَر.» فأيُّ المذهبين أحرى أن يُتَّبَع؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لقد أنبأك بذلك عثمان نفسه حين قال: «ولن يُرَى مثل عُمَر.» والأمر أظهر من أن يحتاج إلى تأويل؛ فمن الخير أن يعطي الرجل أقرباءه وأصدقاءه ومَن لا يمت له بصلة ابتغاءَ وجه الله، على أن يكون العطاء من ماله الخاص لا من مال الدولة؛ لأن لمال الدولة مواضع ينبغي أن يُنْفَقَ فيها، وليس من هذه المواضع إعطاء الأقرباء والأصدقاء.
ضِعَة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما بال قوم تَسْمُو بهم منازلهم وثقافتهم إلى الرفيع من الأمر، فلا يأتون إلَّا ما فيه ضِعَةٌ وتسفُّلٌ وانحطاط؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أولئك قوم يتفوَّق فيهم سلطان الغرائز على سلطان الحضارة، وقد خُلِقوا للضِّعَة، فلما حاولت الحضارة أن ترفعهم، ثقلت عليها عقولهم وقلوبهم ونفوسهم وخفت أجسامهم؛ فارتفعت هذه الأجسام إلى المقام الممتاز، وظلت العقول والقلوب والنفوس حيث خُلِقَتْ، تجذبها الحضارة إلى أعلى فلا تنجذب، وتجذبها الغريزة إلى أسفل فتسمعُ وتطيع.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَا ترى أن الحياة الديمقراطية تتكشف عن كثير من هؤلاء؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ذلك أحرى أن يكون؛ لأن الديمقراطية تلقي القيود وتُيسِّر الظهور لما خفي من أمور الناس، والارتفاعَ لمَن حقه أن يظلَّ وضيعًا.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وأنت مع ذلك تحب الديمقراطية وتؤثرها!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: نعم، لأنَّ حسناتها أكثر من سيئاتها، ومنافعها أكثر من آثامها، والخير الخالص لم يُتَحْ للناس في هذه الحياة.
نكسة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: قد كان فلان أبيًّا حميًّا ذكيًّا مرتفعًا عما يؤذي كرامة الرجل الكريم، فلما بلغ السبعين ابتذل من نفسه ما لم يكن للابتذال سبيل إليه.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ردَّته السن إلى طفولة العقل، وحفظت عليه رجولة الجسم؛ فأدركه شيء يُشبِه النكسة.
تحكم
فرَّق أصحابه للسطو، وضرب لهم موعدًا لاقتسام الغنيمة؛ فجاءه بعضهم بألف، وجاءه بعضهم بخمسمائة، وجاءه بعضهم بأكثر من ذلك وأقلِّ.
فلما أراد القسمة زعم صاحب المائة أن حظه يجب ألَّا يقلَّ عن حظ صاحب الألف، وهَمَّ القوم أن يجادلوه، فاضطرهم إلى الصمت والإذعان؛ لأنه أنذرهم بأن يرفع أمرهم وأمره إلى الشرطة.
ابتسامة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَيس يقال إن ابتسام الثَّغْر آية على ابتسام النفس؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وقد يقال إن ابتسام الثَّغْر آية على عبوس النفس.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فقد رأيت على ثَغْر فلان ابتسامة لم أستطع لها تأويلًا.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: في ذلك الاجتماع الذي شهدته اليوم، أَوَلَمْ تسمع لما كان يقال؟ أَوَلَمْ تَرَ إلى ما كان الناس يأتون من حركات؟
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: بلى.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لقد كنتَ تستطيع أن تقرأ في تلك الابتسامة التي رأيتها على ثَغْر فلان استخفافَه بكل ما كنتَ تسمع، وبكل ما كنتَ ترى؛ لأنه كله لم يكن يصوِّر إلا الكذب، والكذب الذي يريده أصحابه عن عَمْد، وهم يعلمون أنهم يكذبون.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وهل تقوم هذه الاجتماعات إلَّا على هذا الكذب؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: فإذا رأيت فلانًا يبتسم لها، فاعلم أنه يستخفُّ بها.
ضحك
قال أستاذ محنَّك وهو يبتسم لأساتذة محنَّكين لم يكونوا أقل منه ابتسامًا: لقد تجاوزنا وقت الشك …
ولم يستَطِعْ أن يمضي في الحديث؛ لأنه أغرق في الضحك.
قال الأساتذة المحنكون: نعم، ووصلنا إلى اليقين القاطع …
ولم يستطيعوا أن يمضوا في القول؛ لأنهم شاركوا صاحبهم في ضحكه الذي كان يغرق فيه.
ومال عليَّ صاحبي يسألني: أيضحكون من أنفسهم أم يضحكون من الناس؟!
ولم يستَطِعْ أن يمضي في الحديث؛ لأنه أغرق في الضحك.
قلتُ لصاحبي: همْ يضحكون من أنفسهم ومن الناس.
ولم أشارك صاحبي في ضحكه الخافت، ولم أشارك القوم في ضحكهم الصاخب، وإنما لبثت باسمًا أرثي لهم جميعًا.
جلاء
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَمْ تَرَ إلى مصر تتوسط في جلاء الفرنسيين عن سوريا ولبنان؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هذا حسنٌ، وأحسن منه أن تتوسط مصر في جلاء البريطانيين عن أرض الوطن.
توبة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إِلَامَ أراد صاحب هذا البيت:
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ذاك لص كان يسرق الإبلَ، وكان الناس يخافونه على أموالهم فيحتاطون لحراستها؛ فهو يعلن إليهم أنه قد تاب وأقصر عما يخافون، وليس كل لص قادرًا على التوبة.
توبة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إِلَامَ أراد صاحب هذا البيت:
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أراد إلى أنَّ حَمْل النفس على التوبة عن الإثم شيء عسير، وإلى أن التوبة إن صَحَّتْ فقبولها وردها إلى الله، فمَن قارَفَ الإثم أو تورَّط فيه ثم تاب وقبل الله توبته، فهو السعيد.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وأنَّى له أن يعلم أن الله قبل توبته أو ردَّها؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: سيعلم ذلك حين تُعرَض عليه أعماله يوم القيامة؛ فهو إذن لن يحقِّق هذه السعادة في الدار الأولى.
فن
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما بال فلان ينسى دار التمثيل إذا صُرِف عنه السلطان، فإذا رُدَّ إليه ألَحَّ في زيارتها، ولقد رأيته أمس وأول من أمس وأول من أول من أمس، فذكرت قول الشاعر القديم:
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لأنه يحب أن يستمتع بالفن على ألَّا يؤدِّي لذلك ثمنًا.
كِسَاء
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إذا صُرِف فلان عن السلطان لم يَرَه أحدٌ، فإذا رُدَّ إلى السلطان رآه كل الناس.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لأنه يرى شخصه عورة، لا ينبغي أن تظهر إلا أن تتخذ من السلطان كساء.
فصاحة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إذا صُرِف فلان عن السلطان لم يسمعه أحدٌ، فإذا رُدَّ إلى السلطان أكثَرَ القولَ حتى أمَلَّ الناس.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لأن له لسانًا تُطلِقه التولية، ويعقله العزل.
فصاحة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إذا صُرِفَ فلان عن السلطان أطلق لسانه بالشر في الناس جميعًا، فإذا رُدَّ إليه أطلق لسانه بالثناء على الناس جميعًا.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لأنه يسخط فلا يقول إلا شرًّا، ويرضى فلا يقول إلا خيرًا، وقد حِيلَ بينه وبين خير الأمور.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: خير الأمور؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أَلَمْ تعلم أن خير الأمور أوساطها؟!
أعجوبة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما أكثَرَ ما يقول فلانٌ في علوم اللغة وهو أجهل الناس بها، حتى استيقن أنه من أقدر الناس على التصرُّف فيها!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: كأنما كان أبو العلاء يفكِّر فيه حين قال:
تملُّق
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَمْ تَرَ إلى إسراف «مارسيال» في تملُّق مولاه قيصر، حين زعم له أن خزائن الآلهة لا تكفي لمكافأته على ما قدَّمَ من خير؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: رأى قيصر فخافه وطمع فيه، ولم يَرَ الآلهة فلم يحفل بهم. وأكبر الظن أن هذا الوثني الذكي كان يسخر من آلهته ومن قيصر جميعًا.
تملُّق
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَمْ تَرَ إلى هذا الشاعر اللاتيني الثرثار «مارسيال» كيف يسخر من مصر وأهرامها ليشيد بهذا القصر الذي شاده قيصر؟! ومع ذلك فقد مضى قيصر واندثر قَصْره، وما زالت الأهرام باقيةً على الدهر.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إن هذا الشاعر يا بني لم يسخر من الأهرام التي شادتها أيدي المصريين وحدها، ولكنه سخر من الجبال التي شادتها يد الله، وإنَّ تملُّق القياصرة ليكلف الشعراءَ شططًا عظيمًا.
نِقْمَة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما أكثرَ ما اعتذر النابغة إلى النعمان! فماذا جنى الشاعر أو ماذا نقم النعمان؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: جنى الشاعر الجناية الكبرى؛ فقد كان حرًّا شاكرًا لنعمةٍ أسداها إليه غيرُ النعمان، ونقم النعمان من شاعره أنه لم يخلص له من دون الناس. أَلَمْ تقرأ قول النابغة:
عزة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أترى الحُلَفَاء يَفُون بميثاق الأطلنطي؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: كما وَفَوا بمبادئ الرئيس «ولسن»!
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وإذن؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وإذن فالشعب الذي لا يرجو منحًا ولا يخشى منعًا، وإنما ينصفُ نفسه وينصف من نفسه، هو الشعب العزيز الكريم.
توحيد
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أليس مما يملأ القلوب غبطةً والنفوس رضًا أن نرى مصر تعمل على توحيد كلمة العرب؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: بلى، وأَدْعَى من ذلك إلى الغبطة والرضا أن توحِّد مصرُ كلمةَ أبنائها.
جُبْن
قال موظف كبير لبعض رؤسائه السابقين: أحقٌ أن ببابك رصدًا يرقبون المُقبِلين عليك والمنصرفين عنك؟
قال الرئيس السابق: نعم، أي رصدٍ! إنهم لا يغفلون عن طارق بالليل أو زائر بالنهار.
قال الموظف الكبير: فاعذرني إن قصرت عن زيارتك.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لا أعلم أن بباب فلان رصدًا أيقاظًا أو نيامًا.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أراد فلان أن يريح صاحبه من مشقة السعي إليه، وأن يريح نفسه من لقاء الجبناء.
ملق
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما بال قوم من العلماء يتحسسون من رأي الحكام في العلم؛ ليتخذوه لأنفسهم رأيًا.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: يريدون أَلَّا يستأثر الناس من دونهم برضا الحكَّام.
ملق
رأيت قومًا يأكل الملق مروءتهم، كما تأكل النار الحطب، وكما يأكل الحسد قلب الحسود.
نحو
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَؤُصَدِّق النحويين وأصحاب اللغة أم أُصَدِّق فلانًا مع أنه لا يقول في النحو واللغة إلا خطَأً؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: صدِّقْ فلانًا؛ لأنه نحوي لغوي بحكم القانون.
مَثَل
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فَسِّرْ لي هذا المَثَل العربي القديم:
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: تريد تفسير الجد أم تفسير الهزل؟
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أريد تفسير الجد.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: فكُنْ حُرًّا كريمًا إنْ أذنتْ لك نُظُمُ الحُكْم أن تكون حُرًّا كريمًا، وكُنْ عبدًا ذليلًا إن اقتضتْكَ نُظُمُ الحياة أن تكون ذليلًا، واتخذ لنفسك ثوبين: ثوب النعيم تلبسه حين يؤذن في الناس بالحرية، وثوب البؤس تلبسه حين يؤذن في الناس بالرقِّ. وأي الثوبين لبست، فكُنْ عنه راضيًا وبه محبورًا.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فإن أردتُ تفسير الهزل؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: فكُنْ رجلًا حرًّا كريمًا لا تبطره النعمة، ولا تغض منه النقمة، وإنك لتعلم أن الذين يُحسِنون الهزل قليلون.
مَثَل
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ألم يكن يُقَال في قديم الزمان إن الناس على دين ملوكهم؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: كان ذلك يقال قبل أن تتحرر الشعوب، فأما الآن فأحرى أن يقال إن الملوك على دين شعوبهم.
مَثَل
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَا يزال من الحق أن الناس على دين ملوكهم؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: بلى، وعلى دين رؤسائهم أيضًا في بعض البلاد.
مبدأ
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما بال فلان يتملَّق حزبَ الكَثْرة وحزب القلة جميعًا؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لأنه يحتاج إلى الحزبين، ولأن الحزبين يحتاجان إليه.
مبدأ
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إني أرى فلانًا يتملق البيئات السياسية مهما تختلف.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لأن الأيام دولٌ، ولأن الأرض تدور.
زُهْد
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما بالُ فلان يأخذنا بالقناعة، ويجشم نفسه أهوال الجشع؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: يؤثركم بالراحة، ويشقُّ على نفسه بالكدِّ والجهد.
زُهْد
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لا أسمع من فلان إذا لقيته إلا النصح لي بالسمو إلى الروح والتنزُّه عن المادة، ولا أقرأ له فصلًا إلا رأيته يحث الناس على السموِّ إلى الروح والتنزُّه عن المادة، وهو على ذلك غارقٌ في المادة إلى أذنيه.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ومن أجل ذلك أبغضَ المادة التي توشك أن تقتله؛ فنصح للناس بالبراءة منها والتنزه عنها، ولولا بُغْضه للثراء لما نصح لكم بالتجافي عنه.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وما يمنعه أن يتجافى عن ثرائه؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: يمنعه من ذلك رجولته التي تفرض عليه احتمال المحنة والصبر على العذاب إمعانًا في طاعة الله عزَّ وجلَّ؛ فالله يمتحن الأغنياء بالغنى، كما يمتحن الفقراء بالفقر.
رأفة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لو قسَّم فلانٌ ريع ثروته على أهل قريته لأغناهم، ولظلَّ بعد ذلك أعظمهم ثراءً.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هو أرأف بأهل قريته من ذلك، فحسبه أن يحتمل وحده ثِقَل الثراء.
سلطان
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: نُقِلَ إلى فلان أنك قُلْتَ فيه ما يؤذيه.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إنْ أُرْزَق السلطان فلن يؤذيه مني شيء مهما أقل فيه، وإنْ أُحرَم السلطانَ فسيؤذيه مني كل شيء.
وَعْظ
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إن فلانًا لحكيم القول، أحمق السيرة.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لأن لسانه يصدُرُ عن عقله، ولأن سيرته تصدر عن قلبه، ولأن الأسباب بين عقله وقلبه مقطوعة لا سبيل إلى أن تتصل.
وَعْظ
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إن فلانًا ليأمرنا بالمعروف ويدعونا إلى الخير حتى نحبه، وإنه مع ذلك ليمعن في الإثم ويتورَّط في الخطيئة حتى نبغضه.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أُتِيحتْ له القدرةُ على أنْ يَصْدُقَكم، ولم تُتَحْ له القدرة على أن يَصْدُق نفسه.
وَعْظ
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لا أعرف أفصح من فلانٍ إذا وعَظَ، ولا أعرف أبعد منه عن سيرة الرجل الكريم.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إن بعض الفن نفاقٌ يبرع فيه صاحبه، حتى يسحر الناس، دون أن يكون بين هذا الفن وبين قلبه سبيل.
زُهْد
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما أكثر ما يبغِّض فلانٌ إلى الناس أعراض الدنيا! وما أكثر ما يتهالك على أعراض الدنيا! وما أجدره أن يقول فلا يصدقه أحدٌ، وأن يدعو فلا يستجيب له أحدٌ؛ لأن الناس يَرَون مكانه من هذا التناقض.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وما يدريك؟! لعله يصدُق في النصح للناس، ويكذب في إغراء نفسه بالمال. خُذْ منه كلمة الحق، وهَبْه كالصيرفيِّ المزَيف تكثر عنده الدراهم والدنانير الزائفة، ولكنه لا يعدم درهمًا جيدًا أو دينارًا عينًا.
عطف
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لو خرج فلان لأهل قريته عن بعض ماله ليسقيهم ماءً نقيًّا، لذاد عنهم المرض، ولاستفاد زَرْعه من صحة أجسامهم.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هو أعطف عليهم من ذلك؛ أَلَمْ تعلم أن المرض محنة يثاب عليها المريض إنْ أحْسَن احتمالها، وأن الصحة فتنة يُعاقَب عليها الصحيح إنْ أساء استعمالها؛ فهو يؤثر أهل قريته بالثواب ويعصمهم من الفتنة.
زُهْد
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لم أَرَ أشد من فلان تزهيدًا للشباب في المال، ولم أَرَ أشد منه حرصًا على جمع المال.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وما تنكر من ذلك؟! إنه يؤدي إلى الشباب حقهم من النصح الصادق، وإلى نفسه حقها من الثراء العريض.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فهَلَّا نصح لنفسه بمثل ما ينصح به للناس!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أَلَمْ تقرأ بيت البردة:
إنما الحق على الشباب أن يتلقوا كلمة الخير ولو من الشرير، وكلمة البر ولو من الفاجر، وكلمة الزهد ولو من الشره المُسرِف في الطمع. لهم خير ذلك، وعلى مَن يكذب عليهم إثم ما يقترف من الكذب.
جَاهٌ
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما أجدَرَنا أن نتمثَّل في كثير من الأحيان بقول «مارسيال» لبعض أصحابه: «إن هذا الذي يُعلِن إليك المودة والحب، إنما يحب مائدتك المثقلة بالطيبات، ولو قد أَثْرَيْتُ وأثقلت مائدتي بلذيذ الألوان، لأصبح لي صديقًا.»
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: نعم، ولا سيما إذا وضعنا الجاه مكان المائدة، ووضعها المنافع العاجلة مكان ألوان الطعام. فما أكثَرَ الذين يغيِّرون أصدقاءهم بتغيُّر الوزارات!
سؤال
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أحبُّ أن تجيب عن هذا السؤال الذي ألقاه «مارسيال» على بعض أصحابه مُداعِبًا.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وما ذاك؟
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ذاك أن فلانًا باع مزرعته واشترى بثمنها غلامًا حسنًا، وأن فلانًا باع غلامه واشترى بثمنه مزرعة خصبة؛ فأحدهما يحب، والآخر يزرع الأرض، فأيهما أحسن حالًا؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: كُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له.
قرض
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما بال قوم يعمرون الحانات والمراقص، ويقترفون السيئات والآثام، فيشربون ويطربون ويلعبون، ويريدون بذلك كله إغاثة الملهوف، وإطعام الجائع، وإعانة البائس المحروم؟
قال أحد الحاضرين: أولئك قوم يحادون اللهَ ويوادُّون الشيطان.
قال الآخَر: أولئك قوم يتخذون غضب الله القوي وسيلةً إلى رضا الإنسان الضعيف.
قال ثالث: أولئك قومٌ يقرضون الله بالربا، ولكنهم يتعجلون الفائدةَ في الدنيا مخافةَ أن تضيع عليهم في الآخرة.
قال رابع: أولئك قوم وثقوا بالحياة العاجلة فاغتنموا لذاتها، وشكُّوا في الحياة الآجِلة فلم ينتظروها.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أولئك قومٌ يحسنُ أن تقرءوا فيهم إنْ شِئْتُم قول الله عزَّ وجلَّ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ.
موسيقى
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَمْ يبلغني أنك لا تأوي إلى غرفتك إذا تقدَّم الليل حتى تسمع ألحانًا من الموسيقى، ففِيمَ هذه العادة؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أغسل بها نفسي من أوضار الحياة الاجتماعية.
سعادة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أليس جميلًا قول «مارسيال» لأحد أصدقائه: إنه شقي بسعادته.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: بلى، كما أن بعض الناس يسعدون بشقائهم.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: الحق أني لم أفهم عنك، كما أني لم أفهم عن «مارسيال»، وإنما تعجبني صيغتك كما تعجبني صيغته؛ لما أرى فيهما من المطابقة.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: الأمر أدنى إلى الجد من المطابقة؛ فالسعيد يشقى بسعادته لأنه يحتاج منها إلى أكثر مما ينالُ، والشقي يسعدُ بشقائه؛ لأنه يجد هذه اللذة البغيضة التي يشتقها من الغيظ لنعمة الناعم، وترَف المترَف، والتي يمكن أن تُسمَّى حسدًا. ولكلا هذين الأمرين اسم بغيض في الأخلاق؛ فشقاءُ السعيد بسعادته بطرٌ، وسعادة الشقي بشقائه حسدٌ.
عجز
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما تأويل هذا البيت من شعر الحماسة:
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هذا مَثَلٌ أراد به الشاعر تصوير قُدْرته على عقاب مَن يعتدي عليه. وما أكثر الحميرَ التي ترتع في رياض الناس هذه الأيام؛ فلا تجد مَنْ يرُدُّها، أو يصدها، أو يملك لها عقابًا!
زيارة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: قد كان فلان يكثر من زيارة فلان قبل أن يتنكَّر له السلطان، فلما أعرضت عنه الدنيا أعرض معها.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لا، ولكنه يزوره ويطيل الإقامة عنده إذا جنَّ عليه الليل؛ لأن آية النهار مُبصِرةٌ، فإذا انصرف أنشد قول المتنبي في بعض مدائحه لكافور:
تاريخ
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أتصدِّق أن التاريخ يُعِيد نفسه؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لا أُصَدِّق ذلك ولا أكذِّبه، ولكن! لمَ تريد؟
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أريد أن التاريخ سخيفٌ لا خيرَ فيه إن كان يُعِيد نفسه؛ لأن ذلك يدل على أنه لم يستطع للناس وعظًا ولا إصلاحًا.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وما ذنب التاريخ إذا كانت طبيعة الناس لا تتَّعِظ ولا تقبل الإصلاح؟! فقلْ إن التاريخ سخيفٌ، كما أن الموت سخيف؛ لأن الموت يعيش بين الناس ولا يبلغ من نفوسهم موعظةً ولا إصلاحًا.
نفوس
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما تقول في هذا البيت الذي لا يسأم الناس إنشاده من شعر المتنبي:
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وماذا تريد أن أقول فيه؟ إنما هو حكمة من هذه الحِكَم التي يرسلها المتنبي فتَطَّرِد أحيانًا، وتقصر عن الاطراد أحيًانا أخرى، فمن كبار النفوس ما تتعِبُ الأجسامَ، ومنها ما لا يمسُّ الأجسامَ بتعبٍ قليل أو كثير.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فلو أن المتنبي وضع النفوس الصغار موضع النفوس الكبار، فكيف كان يقول؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: كان يقول:
وكان ذلك أحرى أن يكون مطَّرِدًا مصيبًا، والشيء الذي لا شك فيه هو أن المتنبي أخطأ الغرض الذي كان ينبغي أن يرمى إليه.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وما عسى أن يكون هذا الغرض؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هو أن كِبَار النفوس تحمِّلُ صِغَارَها أعباءً ثِقَالًا؛ لأنها تسخرها لما تريد من عظيم الأمر، وأن صِغَار النفوس تكلِّف كِبَارها آلامًا مُمِضَّة؛ لأنها تقصر عن أن تُبلِغها من عظيم الأمر ما تريد.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وإذن؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وإذن، فقد خُلِق الناسُ ليكون بعضهم لبعضٍ مصدرَ محنةٍ وشقاء. وأصاب زيادٌ حين قال: «نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُعِينَ كُلًّا عَلَى كُلٍّ.»
صمت
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَا تفسِّر لي هذا البيت الذي يكثر إنشاده بين حين وحين:
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هذا بيتٌ رائع، صوَّر به عمرو بن معدي كرب خيبة أمله في قومه حين لقوا عدوهم ثم فروا ولم يبلغوا منه شيئًا، وكان عمرو بن معدي كرب شاعر قومه، فكان أحبَّ شيء إليه أن يملأ الأرض غناءً بمفاخرهم ومآثرهم. وأي شيء أشقُّ على الشاعر من أن يضطر إلى الصمت؟!
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وما تمثلك أنت بهذا البيت بين حين وحين؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أتظن أن الناس من حولنا يبلون البلاء الحسن في كل مواطن الجد؟!
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: هيهات!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: فأنشدْ مثلي قول عمرو بن معدي كرب:
ثقة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وثق فلانٌ بأصدقائه حين لم يكن محتاجًا إليهم، فلما جدَّ الجد أخلفت الأيام ظنه؛ فهو بذلك شقي، وله محزون.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: فاعْتَبِرْ أنتَ بمحنته في أصدقائه، وأَقِمْ رأيك في الناس على هذا البيت الرائع القديم:
منى
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما أحسنَ ما تمنَّى «مارسيال»!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وماذا تمنَّى؟
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: «تمنَّى ثروةً لا تُكسَبُ بالكدِّ، وإنما تُكسَب بالميراث، وأرضًا لا تكذب أمل صاحبها ولا عمله، ودارًا عامرةً لا تخبو نارها، وراحةً من الخصومة أمام القضاء، وقليلًا من زيارة أصحاب السلطان، ونفسًا هادئة مطمئنة، وجسمًا يجمع القوة والصحة إلى الظرف والنشاط، وصراحةً قوامها حُسْن الأدب، وصديقًا أكفاء وضيفًا أسماحًا، ومائدةً أنيقةً في غير تكلُّف، وليالي لا سُكْر فيها ولا هَم، وزَوْجًا مُحْصَنَةً لا تغرق في الحياء، ونومًا يختصر ظلمة الليل، واطمئنانًا إلى الحال التي هو عليها دون طموح إلى حال أخرى، وأمنًا من آخِر الدنيا دون تعجُّل له.»
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: كان «مارسيال» أندلسي المنشأ، ولقد أحسن التمنِّي، ولكنه لم يسمع قول مواطنه العربي بعد موته بقرون طوال:
نصح
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: بَيِّنْ لي بعض ما يتعرَّض له الشباب من موبقات النفس.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إياك واليأس من نفسك فإنه يُسقِط الهمة، وإياك واليأس من وطنك فإنه يهدر الكرامة، وإياك واليأس من روح الله فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: زِدْني.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إياك والرضا عن نفسك فإنه يضطرك إلى الخمول، وإياك والعجب فإنه يورِّطك في الحمق، وإياك والغرور فإنه يُظهِر للناس كلهم نقائصك كلها ولا يخفيها إلا عليك. واذكر دائمًا قول المتنبي:
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: زِدْنِي.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إياك والعناء في جمع الماء فإنه خسة، وإياك والحرص على كَنْزِ المال فإنه ذِلَّة، وإياك والإحجام عن بَذْل المال في وجوه الخير فإنه ضِعَة. واقْرَأْ قول الله عزَّ وجلَّ: الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ.
ذلة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَا ترى إلى فلان يتعالى على مرءوسيه كأنه السيد العظيم، ويتضاءل لرئيسه كأنه العبد الذليل.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لو ملك هذا الرجل أمر نفسه لما تعالى على قوم ولما تضاءل لآخرين، وإنما هو رجل فَقَدَ نفسه فهو يلتمسها في العلو الكاذب حينًا وفي التضاؤل الصادق حينًا آخَر، فهو عبدٌ ذليلٌ في الحالين، وإنما السيد الجدير بالسيادة هو الذي لا يطغى إن استغنى، ولا يذل إن احتاج.
خسار
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَمْ تَرَ إلى قومٍ أرسلوا أنفسهم على سجيتها؛ فأبرموا الأمر، وأحكموا القضية، ورضوا عن أنفسهم، ورضي الناس عنهم. ثم بدا لغيرهم فنقضوا ما أبرموا، وفرَّقوا ما أحكموا، وسخطوا على أنفسهم، وسخط الناس عليهم.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أولئك قوم باعوا مروءتهم بثمن بَخْس دراهم معدودة أو دنانير معدودة، واقرأ إنْ شِئْتَ قول الله عزَّ وجلَّ: أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ.
نفور
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لو لقيت مرة واحدة هؤلاء النفر فإنهم حراص على أن يروك.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أراك نسيت قول الشاعر القديم:
هجر
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لو رضيت عن فلان؛ فإنه نادم على ما فرط منه.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إليك عني واذكر قول معن بن أوس:
صد
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَمْ تَرَ إلى فلان لجَّ في هجر الناس، لا يفرِّق بين عدو وصديق.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: الغمرات ثم ينجلينه. واذكر قول البحتري:
روغان
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما أعذبَ حديثَ فلان حين يقول، وما أقلَّ غناءَه حين يعمل!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى:
أهبة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَمْ تَرَ إلى فلان أقبَلَ متأهبًا للحرب، قد أبدى ما يرهِب من ظُفْرٍ ونَابٍ.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: نسي أن لخصمه أظفارًا وأنيابًا. واذكر قول الشاعر القديم:
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما أكثر ما جمع فلانٌ حوله للحرب!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هيهات، لن يكثر خصمه بمن جميع له. واذكر بيت الحماسة:
نزاهة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لقد ضرب فلان أبرع المثل في الذود عن نزاهة الحكم، والتعفُّف عن فتاته ومنافعه العاجلة، والحرص على الاستقامة في القول والعمل، وعلى نقاء اليد والقلب والضمير.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى وعلى ثغره ابتسامة مرة حائرة لا تريد أن تستقر: نعم، بعد أن ملأ يديه بالمغانم والأسلاب.
تعفُّف
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَمْ تَرَ إلى فلان قد اتخذ لنفسه في هذه الأيام مكان أبي ذر أيام عثمان؛ فهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويبغض الأثرة، ويحبب الإيثار، ويحذر من الأخذ من مال الدولة بغير حق.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى، وهو مطرق لا يكاد يرفع رأسه: لو بقي له مطمع لآثَر الصمت.
تحرُّج
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما رأيت كاليوم تحرُّجًا في تدبير أمور الدولة.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وما ذاك؟
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَمْ تسمع إلى فلان يلح في ألَّا يتولى مناصب الدولة إلا القادرون عليها، الناهضون بأعبائها، الذين لا يمسون الوزراء من قريب أو من بعيد.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى وهو يلوي وجهه ويرفع كتفيه: بعد أن أرضى ذوي قرابته على حساب الدولة بما ليسوا له أهلًا.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إني لأرى فيك مرارة لم أعرفها منك قبل اليوم.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إذا بلغ السيل الزبا، وجاوز الحزام الطبيين، وتجاوز كل شيء قدره، وكل إنسان غايته؛ كان خليقًا بالرجل الحر الكريم أن يطلق حلاوة اللسان وعذوبة النفس إلى غير رجعة.
بعد فوات الوقت
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لو سمعت إلى فلان وهو يحذر من عواقب المحاباة لَامتلَأَ قلبك به إعجابًا!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لو قال ذلك أمسِ لصدَّقْنَاه.
قصد
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لقد خنقتني العَبْرة حين سمعت فلانًا يأمر بالقصد في أموال الدولة ومناصبها.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: صدق الله العظيم أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ.
وهمَّ التلميذ الفتى أن يراجع أستاذه فيما سمع منه.
ولكن الشيخ كان قد استوى ودخل في صلاة العصر، فلم يسع تلميذه إلا أن يستوي قائمًا وراءه ويدخل فيما دخل فيه من الصلاة.
كرامة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما أكثر ما كان فلان يعتَزُّ بكرامته، وما أسرع ما استجاب لما لا يلائم هذه الكرامة!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: فإن من الكرامة ما يستجيب للمال كما يستجيب الحديد لدعاء المغناطيس.
عزاء
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما بال فلان قلَبَ لصديقه القديم ظهر المجن؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لم يجد عنده مطمعًا فتعزى عن اليأس بما ترى. واقرأ إنْ شِئْتَ قول الله عزَّ وجلَّ: وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ.
مكر
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَمْ تَرَ إلى فلان يمكر برئيسه ويؤلب عليه؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أراد أن يبلغ رضا رئيسه بالملق، فلما أعياه ذلك أزمع أن يبلغ غضب رئيسه بالكيد.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وتراه يبلغ من ذلك ما أراد؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هيهات، إلا أن يكون الرئيس عبدًا مثله.
إهداء
قال أحد الكتَّاب لبعض قرائه: أي الأدب أحبُّ إليك؟ قال: الذي يرد عليَّ صدى من أصداء نفسي. قال الكاتب: فإن كان هذا الصدى بغيضًا؟
قال القارئ: إن كان بغيضًا علمتُ أن الكتاب لم يسجِّل صوتَ نفسي، وإنما سجَّل صوت نفسٍ أخرى ألتَمِسُها فيمَنْ حولي من الناس.
إهداء
قال أحد الكتَّاب لبعض قرائه: أي الكتب أحبُّ إليك؟ قال: الذي يعرض عليَّ صورة نفسي. قال الكاتب: فإن عرض عليك صورةً قبيحةً؟
قال القارئ: إذن أعلم أنه لم يرد إلى تصويري، وإنما أراد إلى تصوير غيري من الناس.
إهداء
قال أحد الأدباء لبعض أصدقائه: ما أشد حبك للهجاء! وما أكثر قراءتك لما ينشأ فيه من شعر ونثر!
قال الصديق: لأني أجد في ذلك شفاء لبعض ما في نفسي من ازدراء الناس.
هجاء
قال أحد الأدباء لبعض أصدقائه: ما أشد عكوفك على قراءة الهجاء!
قال الصديق: فإنك تعلم حرصي على أن أتَتَبَّع مثالب الناس؛ فالهجاء يعينني من ذلك على ما أريد.
هجاء
قال أحد الأدباء لبعض أصدقائه: إنك لتكثر قراءة الهجاء.
قال الصديق: أتتبع بذلك عيوب نفسي حين ألتمسها في نفوس الناس.
هجاء
قال أحد الأدباء لبعض أصدقائه: ما أكثر ما تُثنِي على هذا الكتاب الذي لا يشتمل إلا هجاء!
قال الصديق: فإنك تعلم أنه يلائم طبعي.
نقد
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أيُّ قرَّائك أحبُّ إليك؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هذا الذي يقرأ مخلصًا، وينقد ناصحًا، ويعلن الرأي صريحًا، لا يصانع فيه، ولا يلتوي به.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ومَن لك بالقارئ الذي تجمع له هذه الخصال؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هَبْهُ إحدى المنى التي يقول فيها الشاعر القديم:
هجاء
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما أكثر ما قال فلانٌ للناس الخيرَ فيما مضى، وما أكثر ما يقول لهم من الشر الآن!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: سقاهم من أدبه صفوًا وعفوًا حتى انتهى بهم إلى قعر الدَّنِّ فهو يسقيهم حثالة نفسه، وأجدر بهم أن يعافوا ما يقدِّم إليهم من شرابٍ.
هجاء
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: قد كان أدب فلان عذبًا سائغًا، فأصبح مرًّا لا يطاق.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ما زال يحلب لهم ضرع الأدب حتى استنفد لبنه، فهو لا يحلب الآن إلا دَمًا.
رياضة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أيُّ الرياضة أحبُّ إليك؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: المشي.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إنما أردتُ رياضة النفس.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: دَفْعها إلى ما تكره وصدُّها عمَّا تحب، ذلك أحرى أن يعينني على احتمال مخالطة الأهل، ومعاشرة الأصدقاء، ومعاملة الناس.
سيرة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما خير سيرة يسيرها الرجل الحازم في أبنائه؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: يكلؤهم بعنايته، ويشملهم برعايته، ويحوطهم بعطفه وحنانه، ولا ينتظر منهم بعد ذلك إلا عقوقًا. ذلك أجدر أن يسروه أحيانًا، ولا يسوءوه أبدًا.
إهداء
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أيُّ المودة أجدر أن تبقى على حوادث الدهر؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هذه هي التي تخلقها الأثرة لا الإيثار، ولم تنشئها الحوادث التي تحدث، والنوائب التي تنوب، ولم تتصل بالمنافع القريبة أو البعيدة، وإنما قامت على توافق العقول، وتعاطف القلوب، واستحيت أن يتحدث عنها أصحابها حين يلتقون.
تلوُّن
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَا ترى إلى فلان يبيض قوله مصبحًا، ويسوِّده مُمْسِيًا؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وما تنكر من ذلك! إنه يستعير بياض الصبح لأحد قوله، وسواد الليل لقوله الآخَر؟
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فأي لَوْنَيْه نصدِّق؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: صدِّقْهما جميعًا إنْ شِئْتَ، وكذِّبْهما جميعًا إن أحببت؛ فهو صادق كاذب معًا؟
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لقد عدتَ إلى الإلغاز في حديثك، وقد كنتَ تركتَه دهرًا؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هو صادق في قَوْلَيْه لأنه يلتمس منفعته بهما، وهو كاذب في قَوْلَيْه لأنه لم يُرِدْ بهما رضا الله ولا نُصْح الناس.
تجارة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَا ترى إلى فلان يستبيح لنفسه الكذب مصبحًا ومُمْسِيًا كما يستبيح الماء الذي يشربه، والهواء الذي يتنسمه؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إنه يشتري بكذبه لذة السلطان؟
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وأيُّ سلطان هذا الذي يُشترَى بالكذب؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: سلطان بخسٌ يُشترَى بثمن بخس.
كذب
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما أحب الكذب إلى فلان!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لو أدَّبه الشعبُ حين كذب كذبته الأولى، لما عاد إلى الكذب مرةً أخرى؟
فرصة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَمْ تَرَ إلى اضطراب أمور الناس منذ أَبْحَرَ فلان؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: غابَ النسرُ فاستنسر البغاث، أو كما تقول العامة: غاب السبع فلعبت الضباع.
مصانعة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَمْ تَرَ إلى فلان همَّ أن يكون رجلًا ثم استكان؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ذكر قول زهير:
فطرة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَمْ تَرَ إلى فلان لم يَكَدْ يزأر زئير الأسد حتى ماء مواءَ القط.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لأنه لم يُولَد أسدًا، وإنما وُلِدَ قطًّا.
مهارة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لم يكد فلان يغيب حتى اضطرب كلُّ شيء.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أمرٌ دُبِّر بليلٍ.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أوْضِحْ فإني لم أفهم عنك!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أراد أن تظهر الحاجة إليه، فيصعب الاستغناء عنه.
طموح
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما بال فلان يؤلب على الحكومة وهو لها صديق.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: مَلَّ مكان الصديق وطمع في مكان الزميل.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وتُرَاه يبلغ ما يريد؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ولِمَ لا؟! إنْ يسرق فقد سرق أخٌ له من قبلُ.
طمع
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما بال فلان لا يريح ولا يستريح؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ملأ خزائنه من المال، ويريد أن يملأ يديه من السلطان.
عداء
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَمْ تَرَ إلى فلان يصبح إخوانه بالعداء كلَّما أشرقت الشمس.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لم ينصفوه لأنهم لم يخلطوه بأنفسهم، واذكر إنْ شئتَ قول الشاعر القديم:
رقص
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لم يَكَدْ فلانٌ يُدبِر حتى أَقْبَلَ.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لم يَنْسَ الرقص الذي تعلَّمَه في باريس.
تقلب
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما أكثر ما يتقلَّب فلان بين الرضا والغضب!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ألَحَّ عليه قول البحتري:
سرعة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لم يَكَدْ فلانٌ يغضب حتى رضي.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ذكر قول بشار:
تجنِّي
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما أكثر ما يتجنَّى فلانٌ على أصدقائه فيؤذيهم ويؤذي نفسه!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أسرفوا في الثناء عليه فظنَّ أنهم صادقون. واذكر إنْ شئتَ قول شوقي:
أفول
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَمْ تَرَ إلى ذلك النجم لم يَكَدْ يشرق حتى أفَلَ.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: كان يستمد النور من غيره، فلمَّا التَوَى عنه مصدر النور عاد إلى إظلامه القديم.
جزاء
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: رأيتُ كأني أودع الأرض بذرًا طيِّبًا، فلا يكاد يستقر فيها حتى ينبت منظرًا بغيضًا!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: تُحسِن إلى قومٍ، ثم لا تَلْقَى منهم إلا شرًّا.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وإذن!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: وإذن فاعمل الخير، واذكر أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا.
كفر
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أيُّ الناس أجدر أن يكفر النعمة ويجحد المعروف؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ذلك الذي يجعل رأسه وعاءً للعلم دون أن يجد نور المعرفة إلى قلبه سبيلًا.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لم أفهم عنك!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إن مثل العلم الذي تعيه العقول، ولا تستضيء به القلوب، مثل الأسفار التي يحملها الحمار. واقرأ إنْ شِئْتَ قول الله عزَّ وجلَّ: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.
تذكار
فلما همت أن تنصرف ألقت في يدي شيئًا صغيرًا، وتولَّتْ وهي تقول: اجعل هذا وقاءً لك من شر مَن تُحسِن إليه.
ونظرتُ فإذا هو مصحف دقيق.
لكِ العهد يا بنتي ألَّا يفارقني مصحفك هذا الدقيق حيًّا وميتًا، ولك العهد ألَّا أتخذه وقاءً من أحد، ولا وقاء من شيء، وإنما أحمله لأن حمله محبَّب إليَّ.
بطر
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَا ترى إلى قوم يمكرون برئيسهم، ويطلقون فيه ألسنتهم.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: سئموا النعمة واشتاقوا إلى النقمة.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وترى رئيسهم يذيقهم من الشر ما يريدون.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هيهات، واذكر قومًا جعلهم الله عِبْرة لأُولِي الأبصار؛ لأنهم خربوا بيوتهم بأيديهم.
فتنة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَا ترى إلى فلان يبر بذوي رَحِمه على حساب الدولة.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: نجم يريد الأفول، وما أراه يأفل حتى تأفل معه نجوم أخرى.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فإن النجوم الأخرى ماضية في سبيلها لم تنحرف عن الجادة.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: فاقرأ إنْ شِئْتَ قول الله عز وجل: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً.
وعد
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما زال فلان يعدني ويمنيني حتى ظننت أنه سيعطيني القمر، فلما حان وقت الوفاء لم أجد عنده إلا سرابًا.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لا تَلُمْه وقد أعطاك ما يملك، وهو لا يملك إلا الوعد، ولكِنْ لُمْ نفسك على تصديقه. واقرأ إنْ شِئْتَ قول الله عزَّ وجلَّ: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ۖ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا.
عِبْء
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لم يجلب فلان لزملائه منذ شاركهم إلا شرًّا.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هو كما قال الله عزَّ وجلَّ: كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ.
وقاء
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما حرص زملاء فلان عليه وهو يكلفهم من الشطط ما لا يطيقون.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إنما يتَّقُون به عين الحسود.
تعالي
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَمْ تَرَ إلى فلان ثانيَ عطفه شامخًا بأنفه لا يكلِّم الناس إلا وحيًا، ولا ينظر إليهم إلا شذرًا.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أَنْفٌ في السماء واسْتٌ في الماء.
إصلاح
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما أكثر ما يذكر قومنا الإصلاح، وما أقل ما يصلحون!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إنما يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ولو قد آمنت قلوبهم بالإصلاح حقًّا لعملوا أكثر مما يقولون.
نور
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما أكثر ما ينتقص الناس فلانًا دون أن يبلغوا منه شيئًا!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ.
ثبات
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما أكثر ما تألب الناس على فلان فهاجموه جَهْرَةً، وكادوا له سرًّا، وأغروا به ألسنتهم وأقلامهم، وهو ثابت في مكانه لا يزول!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إنما مثلهم ومثله قول الشاعر القديم:
لوم
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ما رأيتك تذكر قومنا إلا لائمًا لهم ناعيًا عليهم.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى:
سخط
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: متى ترضى عن قومك؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: حين أراهم يسخطون على أنفسهم.
عقل
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَمْ تَرَ إلى قومنا قد قلبوا لقادتهم وزعمائهم ظهر المجن.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لأنهم أخذوا يعقلون.
تبصُّر
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَمْ تَرَ إلى قومنا لا ينقادون لساستهم في يُسْر كعهدهم منذ حين؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: جعلوا يصبحون رجالًا.
إخلاص
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: متى يخلص الساسة في خدمة الشعب.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: حين ينسون أنفسهم.
حسد
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَا ترى إلى فلان ما ينفك يثير الصعاب، ويبث العقاب بين يدي زملائه العاملين؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: لم ييسره الله للخير، فهو يأبى أن يجري الله الخير على يدي غيره.
زهو
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لم يصنع فلان شيئًا منذ ارتقى إلى منصبه، وهو أكثر الناس حديثًا عن نفسه مصبحًا ومُمْسِيًا.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: إنما هو كما قال أبو العلاء في بعض معاصريه: «رَحًا تَطْحَنُ قُرُونًا.»
رقص
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: أَلَمْ تَرَ إلى الذين يكتبون مذكراتهم السياسية، ويضيفون فيها إلى الموتى من الأقوال والأعمال ما يمنعهم الموت من أن ينكروه أو يجادلوا فيه؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هؤلاء القوم يستحبون الرقص على جثث الموتى، فَدَعْهُم يخوضوا ويلعبوا حتى يأتي يومهم الذي يُوعَدون.
صدقة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: وإني أقرأ في كتاب الله هذه الآية البارعة الرائعة بما فيها من هذا التمثيل القريب البعيد: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ فهَلَّا أظهرْتَني على ما وراء هذا الجمال الفني الرفيع من أمر الدين؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: فإن الرواة يتحدثون بأنها أُنزِلت بشأن رجلين من أصحاب رسول الله ﷺ حين ندب النبي أصحابه للجهاد بأموالهم وأنفسهم في غزوة (تبوك)، فأما أحد هذين الرجلين فهو عبد الرحمن بن عوف رحمه الله، قسم ماله نصفين، أمسك النصف على نفسه وأهله، وأقبل بالنصف الآخَر على النبي ﷺ فأقرضه الله قرضًا حسنًا؛ فقال له النبي ﷺ: «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت.» وأما الآخَر فعثمان بن عفان رضي الله عنه، جهَّز للحرب مَن لا جهازَ له من فقراء المسلمين؛ فأنزل الله هذه الآية، يُنبِئ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله عن نية خالصة، وعزيمة صادقة، وبراءة من المَنِّ والأذى، بأنه يضاعف لهم نفقاتهم فيما يمنحهم من ثواب الآخرة أضعافًا كثيرة، كهذه الحبة التي تُلقَى في الأرض، فتنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، وكل واحدة من هذا الحب قد تُلقَى في الأرض؛ فتنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف الخير لمَن يشاء، تَسَعُ قُدْرته ورحمته ذلك، والله يرزق الناس من نعيم الدنيا وثواب الآخرة إنْ أراد بغير حساب.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لو صدق الموسرون وعد الله وخافوا وعيده؛ لآثروا إقراض الله على إقراض الناس.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: فإنهم يرون بعيونهم، ويأخذون بأيديهم، ويحرزون في خزائنهم ما تغل عليهم قروضهم في المصارف وفي أسواق المال، ويمنعهم ضعف النفوس وخور القلوب، وهذا الشك الذي يفسد العقول أن يروا ما أعدَّ الله للمحسنين من ثواب. واقرأ إنْ شِئْتَ قول الله عزَّ وجلَّ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا * كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا.
صدقة
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: إني أقرأ في كتاب الله هذه الآية الكريمة التي تروع بما فيها من الإيجاز والصفاء: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ … فهَلَّا فسَّرْتَها لي وفقَّهتني في معناها؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: فإن الناس كانوا يسألون النبي ﷺ عما ينبغي أن ينفقوا من أموالهم برًّا بالبائسين ومعونة للمحتاجين، فأنبأهم الله بأن فيما زاد على حاجاتهم وحاجات مَن يعولون من الأهل والولد سعة لهذا البر ومادة لهذه المعونة، وإنما أراد إلى تأديبهم بما ينبغي أن يرعوا به حق أنفسهم وحق ذوي قرباهم وحق نظرائهم من الناس، وأراد قبل كل شيء أن يحملهم على الرفق بأنفسهم وبمَن يعولون، وكانوا قد تأثَّروا بالدعوة الإسلامية واندفعوا إلى البر وأقبلوا عليه؛ حتى هَمَّ كثير منهم أن يشقوا على أنفسهم ويقتروا على أبنائهم وأزواجهم، فدعاهم الله ورسوله إلى أن يرعوا حقوقهم أولًا، وحقوق غيرهم من الناس بعد ذلك. وقد أقبل رجل على النبي ﷺ ذات يوم فقال له: «عندي دينار. قال: أنفقه على نفسك. قال الرجل: عندي غيره. قال: أنفقه على أهلك. قال الرجل: عندي غيره. قال: أنفقه على ولدك. قال الرجل: عندي غيره. قال النبي ﷺ: فأنت أبصر.» لم يأمره أن يتصدَّقَ به، ولم يَنْهَهُ عن هذه الصدقة، وإنما ترك له أن ينفقه عن بصيرة في أمر دينه ودنياه. وأقبل رجل آخَر ذات يوم على النبي ﷺ ومعه بيضة من ذهب أصابها في بعض المعادن. قال: خُذْها مني صدقة، فقد أصبحت لا أملك غيرها، فأعرض عنه النبي ﷺ، وجاءه الرجل من ركنه الأيمن فأعاد عليه القول، فأعرض عنه النبي مرة ثانية، وأعاد الرجل القول فأعرض عنه النبي مرة ثالثة، وأعاد الرجل القول للمرة الرابعة؛ فقال له النبي ﷺ في لهجة المغضب: هاتها. فلما دفعها الرجل إليه حذفه بها حذفة لو أصابته لشجته، ثم قال: «يأتي أحدكم بماله كله يتصدَّق به ثم يجلس يتكفَّف الناس.»
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فقد كان النبي ﷺ إذن يكفكف من غلو أصحابه في الصدقة، ويخفف من إمعانهم في البر وإجهادهم لأنفسهم.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: كان يرفق بهم؛ لأنهم لم يكونوا يرفقون بأنفسهم.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فأين نحن من أولئك الناس؟!
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: نحن في المنزلة التي لا يرفق الرجل فيها بنفسه، ولا بأهله، ولا بولده، ولا بغيرهم من الناس؛ لأنه يؤثر المال على الرفق والبر والإحسان جميعًا، وصدق الله العظيم حين قال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ.
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لو صدق الناس وعد الله وخافوا وعيده؛ لما آثَروا متاع الدنيا على متاع الآخِرة، ولما كنزوا الذهب والفضة في خزائنهم أكداسًا، والناس من حولهم يصومون ثم لا يجدون ما يخرجون به من الصوم.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: هو ذاك، واقرأ إنْ شِئْتَ قول الله عزَّ وجلَّ: الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ.