جوناثان يتفقد الكنيسة الصغيرة
في اليوم التالي، سمع جوناثان صوت جلبة خارج نافذته، فأسرع لينظر. لم يرَ غجرًا هذه المرة، ولكنه رأى بعض السلوفاكيين، كان اثنان منهم يرتديان جلود أغنام قذرة وأحذية عالية الساق ويقودان عربتين كبيرتين تجرهما ثمانية خيول قوية.
صرخ جوناثان نحو الأسفل بأعلى ما استطاع حتى بُحَّ صوته، لكنهم لم يرفعوا رءوسهم لينظروا إليه. رأى جوناثان أن العربتين كانتا تحملان صناديق مربعة ضخمة تشبه النعوش، وقد رُبط بكل منها حبل غليظ يُشدُّ منه. أفرغ السلوفاكيون الصناديق في ساحة القلعة بسهولة، فعلم جوناثان أنها كانت فارغة. وبعد إنزال الصندوق الأخير، ضرب السلوفاكيون الخيول بأسواطهم وانصرفوا.
على مدار الأيام القليلة التالية أتى رجال آخرون. وقد استنتج جوناثان من واقع ما رآه أن الصناديق كانت توضع في مكان عميق بقبو القلعة. في كل أرجاء المنزل، كانت تنبعث من القبو أصوات مكتومة لمجارف تحفر الأرض والصخور. ما الذي كان يجري؟
ذات ليلة، رأى جوناثان الكونت يخرج من نافذة حجرة نومه متسلقًا الجدار لأسفل كالسحلية مرة أخرى، ولكن المختلف هذه المرة أن الكونت كان يرتدي الملابس التي أُخذت من غرفة جوناثان! أدرك جوناثان في هلع أن الكونت أراد أن يظن الناس أنهم رأوا جوناثان نفسه، كدليل آخر يدعم الخطابات الزائفة. وكان يخشى من أن يُلام على أي شر يمكره الكونت في المدينة.
في وقت لاحق من تلك الليلة، استيقظ جوناثان على صوت بكاء مرير في البهو بالأسفل. عندما اندفع لينظر من النافذة، رأى امرأة شعثاء تلهث من أثر البكاء والركض. عندما رأت وجه جوناثان مطلًّا من النافذة، تقدمت المرأة نحوه وأشارت إليه صائحة: «أيها الوحش! أعد إليَّ كلبي! رجاءً! أتوسل إليك!»
قبل أن يجيبها جوناثان، سمع همس الكونت الغليظ القاسي، ينبعث من مكان ما في الأعلى، ربما كان برج القلعة، وكأنما يستدعي شيئًا ما. راقب جوناثان المشهد في رعب وقد بدا أن الرد على نداء الكونت جاء من كل صوب وحدب، ففي كل أرجاء الوادي، كانت الذئاب تعوي. وفي غضون دقائق، اندفعت مجموعة منهم من المدخل الفسيح إلى البهو وكأن سدًّا مانعًا قد انهار.
أغمض جوناثان عينيه. لم يحتمل رؤية ذلك. لكنه لم يكن بحاجة إلى سد أذنيه لأن المرأة لم تصرخ، لم يكن هناك وقت. وبعد دقائق قليلة، تفرقت الذئاب بعيدًا، وهي تتحرك بهدوء وتلعق شفاهها.
كان اليوم التالي يوافق تاريخ آخر خطاب أجبر الكونت جوناثان على كتابته. لم يكن أمامه وقت طويل. وكان عليه التوصل إلى خطة بأسرع وقت!
أدرك جوناثان أنه لم تسبق له رؤية الكونت في ضوء النهار. هل يُحتمل أن السبب في ذلك هو أن الكونت ينام عندما يستيقظ الآخرون؟ ليته يتمكن من دخول غرفة الكونت! قطعًا سيجد هناك إجابات عن بعض أسئلته. ولكن كيف؟ كان الباب موصدًا دائمًا.
خطرت له فكرة. إذا كان الكونت قد خرج من نافذته، متسلقًا الجدار، فربما استطاع جوناثان أيضًا التسلق بالطريقة نفسها، والعثور على مفتاح الباب الأمامي في مكان ما بالداخل. بالطبع لم يكن يستطيع القفز على الجدران كالسحلية، لكن كانت هناك نتوءات بالجدران الخارجية للقلعة، وأحجار أخرى ذات أحرف حادة. كلها كانت تصلح كزوايا وصدوع تسع أصابع الأقدام البشرية.
وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، وجد نافذة مفتوحة في نفس مستوى نافذة الكونت وبينهما إفريز مشترك. خرج جوناثان متسلقًا الجدار. وبينما كان يسير ببطء بجانب واحد من جسده، نظر إلى أسفل، لكن الارتفاع الشاهق روَّعه كثيرًا فوجَّه نظره إلى أعلى بعد ذلك. وما إن وصل نافذة الكونت وانسلَّ داخلًا، حتى نظر حوله سريعًا في خوف يبحث عن الكونت. لكن الغرفة كانت خاوية.
كانت الغرفة في الحقيقة غير مؤثَّثة، ومغطاة بالغبار، وكأنها لم تُستخدم من قبل. وفي إحدى زواياها، رأى كومة من الذهب مغطاة بالغبار أيضًا، وكل شيء كان يبدو أنه مضى عليه مئات السنين. وفي أقصى نهاية الغرفة، ضُرب بباب غليظ من ورائه سلالم دائرية تنحدر بشدة وتصل إلى عمق بعيد تحت سطح الأرض. كتم أنفاسه محاولًا أن يتمالك نفسه، ومضى قدمًا.
وبعد أن نزل إلى نهاية الدرج واجتاز ممرًّا آخر حجريًّا طويلًا، وجد نفسه في كنيسة قديمة مهدَّمة. كانت الأرضية من التراب، ويبدو أنها كانت تُستخدم كمقبرة. وهناك، كانت تحيط به التوابيت التي أحضرها السلوفاكيون من كل جانب. لكنها كانت ممتلئة آنذاك بتراب قد استُخرج من الأرض حديثًا.
وفي أحد التوابيت التي كان عددها خمسين تابوتًا (أحصاها جوناثان بسرعة)، وفوق كومة من التراب المندَّى، كان يرقد الكونت! لم يعرف جوناثان هل كان نائمًا أم ميتًا. كانت عيناه مفتوحتين وشفتاه حمراوين كعادتهما، لكنه لم يُصدر أي حركة أو نبض أو نَفَس، ولم يكن قلبه يدق.
وبعد أن ألقى جوناثان نظرة خاطفة أخيرة على عيني الكونت الباردتين كالأموات، استدار وهرع ليصعد الدرج، فخرج من نافذة الكونت، وسار على الإفريز بجانب جسمه، ثم دخل مرة أخرى عبر النافذة التي خرج منها.
عاد إلى غرفته وألقى بجسده على الفراش وهو يلهث ويحاول التفكير. غدًا يحين موعد آخر خطاب. فماذا يفعل؟
•••
عندما رأى جوناثان الكونت في وقت لاحق ذلك المساء، بعد أن استيقظ من قيلولته في التابوت، تجرَّأ وسأله: «هل سأغادر غدًا؟»
أجاب الكونت: «نعم يا صديقي، غدًا نفترق.»
سأله جوناثان: «لماذا لا يسعني الرحيل الليلة؟»
اندهش الكونت ورد بأن قائد العربة والخيول خرجوا في مهمة.
قال جوناثان: «يسعدني أن أذهب سيرًا.» لم يعد يكترث لظهور خوفه من عدمه. لقد أراد الهروب، وكان عليه ذلك!
سأله الكونت: «وماذا عن أمتعتك؟»
أجاب: «يمكنني الإرسال لأخذها في وقت لاحق.»
وقف الكونت وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة شيطانية، وقال: «بالطبع لم أكن لأبقيك ساعة واحدة في منزلي ضد رغبتك. إذا أردت أن ترحل الليلة، فبالطبع لك هذا.»
التقط الكونت مصباحًا في انحناءة وجيهة وأضاء الدرج لجوناثان موصلًا إياه إلى الباب الأمامي. اطمأن جوناثان كثيرًا حتى إنه شعر أن بوسعه قطع الطريق إلى لندن ركضًا، إذا لزم الأمر.
ولكن ما إن اقتربا من الباب، حتى بدأت أصوات مألوفة تتعالى. لقد كان عواء الذئاب القادم من الوديان الموجودة أسفل القلعة يتعالى شيئًا فشيئًا، تمامًا كما حدث تلك الليلة عندما أتت المرأة تبحث عن حيوانها المسروق.
عندما وضع الكونت يده على مقبض الباب الضخم وجذبه، رأى جوناثان أن الذئاب كانت بالفعل تقف عند الباب الأمامي، وهي تثب وتلعق بألسنتها، في انتظار أن يخطو خطوةً للخارج. لم يحُل بينه وبين مصيره سوى جسد الكونت.
صرخ جوناثان: «أغلق الباب، سأنتظر حتى الصباح!»
قال الكونت في هدوء: «كما تشاء. كل ما أريده هو إرضاء ضيوفي.»
اضطرب تنفس جوناثان منذ ذلك الحين ولم تهدأ أنفاسه حتى صاح الديك معلنًا طلوع الصباح التالي. ركض مباشرةً إلى الباب الأمامي وحاول فتحه، لكن الباب لم يتحرك. بدأ اليأس يتملكه وهو يواصل محاولاته لجذب الباب، لكن الباب كان موصدًا مرة أخرى من الداخل بمفتاح؛ كان ذلك المفتاح غالبًا يحمله الكونت على جسده.
التفت جوناثان وقد علم أن عليه العودة إلى غرفة الكونت ومنها إلى القبو ليجد لنفسه مهربًا.
كان تابوت التراب لا يزال في مكانه، لكن الغطاء كان موضوعًا فوقه وعليه المسامير غير مثبتة به، بل موضوعة في انتظار أن يقوم شخص بدقها. وعندما رفع جوناثان الغطاء، رأى الكونت. كان هناك شيء مختلف. حينها كان الوحش النائم يبدو أصبى من عمره بسنين. تحول شعره وشاربه الأبيضان إلى الرمادي الداكن، وتوردت وجنتاه وامتلأت من بعد شحوبهما. وأخيرًا كانت شفتاه أكثر احمرارًا من أي وقت مضى، ورأى جوناثان عليهما آثارًا طفيفة للدماء. لقد كان الكونت يتجرعه، وكان هذا أثره عليه.
عندما نظر جوناثان إلى الابتسامة الساخرة التي ارتسمت على وجه الكونت النائم، أدرك أن هذا هو الكائن الذي كان يساعد في نقله إلى لندن، حيث يمكنه أن يعذب المدينة قرونًا قادمة ويخلق دائرة جديدة من أشباه الشياطين — كالنسوة الثلاث — ليفترسوا الضعفاء.
لم يكن ليسمح بهذا. وعندما نظر حوله، رأى جاروفًا استخدمه العمال حتمًا في ملء التوابيت. رفعه جوناثان لأعلى ونزل به بأقصى قوته ليضرب وجه الكونت البغيض. لكن في تلك اللحظة، تحركت رأس الكونت ووقع نظره على جوناثان وكأنه يحدق به، فارتبك جوناثان وأخطأت الضربة الموضع المنشود، لكنها أصابت جبهة الكونت بجرح بسيط.
لم يقوَ جوناثان على فعل ذلك. فعلى أي حال، لم يكن جوناثان نفسه وحشًا. وبعدها سمع صوتًا قادمًا من بعيد؛ أصواتًا عذبة تغرد بأغنية غجرية كانت تقترب. وعلا فوق صوت الأغنية صوت دواليب ثقيلة تتدحرج وقرع سياط. لقد عاد السلوفاكيون.
وسرعان ما اقتربت الأصوات أكثر، وبدت كأنها صادرة من داخل المنزل. صعد جوناثان الدرج مسرعًا ليخرج من القبو، وانتظر بغرفة الكونت، التي كانت أيضًا مقفلة من الداخل، وقد قرر أن يهرع إلى الخارج لحظة فتح الباب المؤدي إلى الرواق.
لكن فجأة بدت الأصوات صادرة من القبو في الكنيسة. أدرك جوناثان أنه حتمًا كان هناك مدخل آخر. حاول أن يركض مرة أخرى إلى قبو الكنيسة، ولكن في تلك اللحظة هبت ريح صكت الباب المؤدي إلى الدرج الملتف بصوت مرتفع. وعندما حاول فتحه، وجده موصدًا بإحكام.
كانت تنبعث من القبو أصوات طرق، ووطء أقدام، وتحريك أشياء ثقيلة. كان ذلك صوت دق المسامير في تابوت الكونت لإغلاقه وإخراج السلوفاكيين لذلك التابوت مع التوابيت الأخرى الممتلئة بالتراب من القلعة. وعندما ركض جوناثان ونظر من النافذة، رأى العربات محمَّلة عن آخرها، وقد بدأت تتحرك في قافلة خارجةً من الفناء.
لقد فات الأوان. خرج الكونت في طريقه إلى لندن، وتُرك جوناثان وحيدًا هنا في القلعة مع تلك النسوة البشعات. لقد كان الأمر فوق احتماله. وكان عليه الخروج من ذلك المكان اللعين، الذي كان يسكنه الشيطان وذريته في صورة بشر. سيهرب حتى وإن كلفه ذلك حياته. فتح جوناثان النافذة وبدأ يتسلق.