فشل الظالمين
فانتبه عمرو كأنه في سكرة وصحا منها بغتة فرأى خولة مصيبة بدعواها فالتفتت إلى قطام لفتة استفهام فلم يسمع منها جواباً. فقال ها «ما تقولين يا قطام لماذا لم تخبريني بخبر تلك المؤامرة؟»
فارتبكت في أمرها ولكنها أجابت وهي مبغوتة وقالت «لأني لم أكن عارفة بخبرها يومئذ».
فتبين عمرو التلاعب في كلامها ولكنه أراد تحقق ذلك فقال لها «ولكنك قلت الآن إنك سمعت خبر المؤامرة منهما فهل سمعته قبل إرسال عبدك إلينا أو بعده».
فانخدعت قطام بسؤاله فأجابت على الفور «لم أسمعه إلا بعد سفر عبدي وكنت عازمة على إرسال غيره فلم أتمكن لمشاعل خصوصية انتابتني».
فتقدم حينئذ عبد الله وهو يكاد يرقص فرحا بخذلان قطام وقال «ولكن عبدك يا مليحة لم يسافر من الكوفة إلا بعد سفرنا لأنه إنما قدم الفسطاط ليخبر الأمير بخروجنا من الكوفة».
فأشار عمرو إليه فسكت وعاد هو إلى السؤال فقال «وزد على ذلك أن هذه العجوز تقول إنكما سمعتما ذلك الخبر منهما ليلة سفرهما فما تقولين بذلك».
فغلب الحنق على قطام فقالت «هذه عجوز حمقاء غلب عليها الخرف فلا يعتد بقولها».
فغضبت لبابة لعقوق قطام وإهانتها إياها على هذه الصورة وهي تعتقد فضلها عليها فقالت لها «وأنا لم أقل ذلك إلا بعد قولك … تبا لك من امرأة خائنة. كيف تقولين إن الخرف غلب علي وأنت إنما غلب عليك النفاق».
فاشتد حنق قطام ولم تعد تعي ما تقول لفشلها وخجلها فقالت «اخرسي يا مجنونة ولا تتكلمي بين يدي».
فقالت لبابة «بل أنت مجنونة وأنت الخائنة وإذا لم تلزمي حدك أطلعت الأمير على كل سرائرك وفضحت أمرك».
فقالت «وماذا عسى أن تقولي وأنت خادمة لا يعتد أحد بأقوالك».
وكانت لبابة قد تحققت وقوع قطام في شر أعمالها فأرادت أن تخلص نفسها وتنجو بحياتها فلم تر ذريعة أهون عليها من إيقاع قطام بإباحة أسرارها بالإقرار. ولا غرابة في ذلك فإن من كان مثلها ميت الضمير سيئ الخلق لا ذمام يزجرها ولا عقل يعقلها يسهل انقلابها من الشيء إلى ضده فقالت «على الفور إن أسرارك كلها تحت قدمي هذه وإذا أذن مولاي الأمير كشفت له كل شيء».
فسرت خولة وعبدالله لذلك الخصام. أما عمرو فرأى لحسن سياسته وتعقله أن خولة ممن يحرص على بقائهم وأنها إذا كانت على دعوته لا يخشى انقلابها. وأما قطام فإنها إذا أخلصت له اليوم لا يأمن أن تخونه في الغد فقال للعجوز «قولي يا خالة ما تعرفينه».
فأخذت لبابة تتلو حديث قطام مفصلا من أوله إلى آخره والكل مصغون صامتون ففضحت أسرارها فتحقق عمرو أن إرسالها عبدها إليه لم يكن حبا به ولا نصرة لحزبه بل انتقاما من سعيد وعبدالله. وتبين لديه أن هذين إنما اندفعا للدفاع عن علي بوصية جدهما أبي رحاب واتضح له جليا أن قطاما خائنة لا يوثق بقولها ولا يعتمد عليها وأن بقاءها في قيد الحياة شر على العالمين. ولم يكن اعتقاده بلبابة بأحسن من اعتقاده بقطام لأنه رأى خيانتها رأي العين فصمم على التخلص من كليهما.
وكانت قطام في أثناء حديث لبابة واقفة وقوف الصنم وقد جمد الدم في عروقها واصطكت ركبتاها. وكانت في أول حديث لبابة تهم بتكذيبها وعمرو يسكتها ثم سكتت من تلقاء نفسها. فلما فرغت لبابة من حديثها نادى عمرو «يا غلام» فجاء فأمره أن يسوق قطاما وعجوزها إلى غرفة يسجنهما فيها.