غوطة دمشق
أما بلال فلما بعثه عبد الله ليتربص مع سعيد في الكوفة سار إلى دمشق فرأى سعيداً بانتظاره هناك فحكى له ما قر القرار عليه واستنهضه للمسير إلى الكوفة فاستمهله يومين ريثما يقضي بعض الحوائج. وفي أصيل اليوم الثاني حملا أحمالهما وخرجا على جمليهما على أن يبيتا تلك الليلة في غوطة دمشق ويصبحا في اليوم التالي على طريق الكوفة.
وفي خروجهما من باب المدينة لقيهما رسول عبد الله القادم لاستقدامهما إلى الفسطاط وهو يعرف بلالاً فأوقفه ودفع الكتاب إلى سعيد فقرأه سعيد وهو لا يصدق لعظم ما هاله من الفرح للقبض على قطام مع رضاء عمرو وما توسمه من شوق خولة إليه.
أما بلال فتأسف للقبض على قطام في غيابه مخافة أن يعفو عن قتلها أو أن يقتلها أحد سواه وهو يود أن يقتلها بيده ليشفي منها غليله.
فقال سعيد للرسول «كنا خارجين الآن إلى الغوطة لنبيت فيها ونصبح إلى الكوفة فأرى بعد أن حملنا أحمالنا أن نظل في طريقنا إلى الغوطة فنبيت هناك ونصبح في الغد نلتمس الفسطاط» فساروا جميعاً حتى وصلوا بعد الغروب إلى بحيرة صغيرة حولها أشجار التفاح والمشمش والسفرجل والخوخ تتخللها أشجار الحور وقد علت نقنقة الضفادع يتخللها حفيف الأشجار وصفير الصراصير وهبوب الريح وتغريد الطيور مما يشرح الصدر ويندر مثاله في غير تلك الغوطة.
فحطوا احمالهم واشتغل بلال ورفيقه بإعداد العشاء مما حضر ولا يحلو الطعام هناك إلا بالفاكهة.
وكان بلال يعرف صاحب ذلك البستان وقد نزل عنده ليلة قدومه من الفسطاط فترك سعيداً والرسول ومشى بين الأشجار تحت جنح الظلام يلتمس بيت البستاني. ولم يمش برهة حتى أخطأ الطريق لتكاثف الأشجار وجعل يتلمس في مسيره وهو لا يزداد إلا ضلالاً وبعداً حتي أصبح بينه وبين رفاقه ميل وبعض الميل وهو لا يدري فوقف يتفرس من بين الأشجار لعله يرى نوراً أو يتبين المنزل من وراء الأفق. ولبث برهة يعمل فكرته ويحاول أن يعرف الجهة التي ترك فيها رفاقه لكي يعود إليهم ولو بلا شيء.
وفيما هو يفكر وقد هدأ الجو وسكنت الطبيعة لا يسمع فيها غير نقنقة الضفادع عن بعد وإذا بصوت أجفله وهو جعير جمل عقبه جعير جمل آخر فعلم أن القادمين ركب أمسى عليهم المساء قبل الوصول إلى المدينة. فمكث ينتظر وصولهم ليخاطبهم ويستفهم منهم عن الطريق. وكان قد أسند ظهره إلى شجرة فتطاول بعنقه وتنصت ليتحقق الجهة التي سمع الصوت منها فسمع لغطاً وكلاماً استلفت انتباهه فأصاخ بسمعه فإذا بقائل يقول «دعنا ننزل هنا يا ريحان فإذا أصبحنا دخلنا دمشق لأني أخاف أن يستغشونا إذا دخلناها في الظلام … ألا تظننا في أمان هنا؟»
وسمع الجواب «نعم يا مولاتي».
فاقشعر بدن بلال عند سماعه ذلك الصوت وقد أدرك لأول وهلة أنه صوت قطام وخصوصاً لما سمعها تخاطب ريحان بما يمازجه خوف. وتحقق للحال أنها آتية فراراً من سجن الفسطاط.