الفصل الخامس عشر
معاوية وأصحابه
ولما بلغ الشيخ إلى هذا الحد تنهدّ تنهداً عنيفاً وصوته يعلو بالرغم عنه «إن معاوية
خدعنا
بتظاهره في نصرة الخليفة المقتول حتى كرَّهنا بالإمام علي وقد كنا في ظلمات من الغرض
لا يرى
الحق وأما الآن وقد قشعت الغشاء عن عيني فإني أصبحت ناقماً على معاوية وإذا فكرت في إعماله
وإعمال كدت أتميز غيظاً ويتفطر قلبي أسفاً على ما نال هذا الإمام من الأذى الذي لا يستحقه.
كيف لا وهو رجل عرفناه يوم انتصر علينا في موقعة الجمل كيف أنه أشفق على عدوه إشفاقه
على
أولاده فأوصى أصحابه أن لا يلحقوا مدبراً ولا يجهزوا على جريح ولا يسموا النساء ولا الأولاد
بسوء. وكم أوصى عماله أن يقسطوا في أحكامهم وقد أخبرني رجل سمعه يوصي أحد عماله ويقول
(لا
تضربن رجلاً سوطاً في جباية درهم ولا تبيعن رزقاً ولا كسوة شتاء ولا صيفاً ولا دابة يعتمدون
عليها ولا تقيمن رجلاً قائماً في طلب درهم)١. ولو أردت أن أسرد من أمثلة ذلك لضاق بي المقام وخفت انقضاء أجلي قبل الفراغ
منها وإنا إنما استمهل ملاك الموت ريثما أتمّ وصيتي لك … فأصغ لي يا ولدي وتأمل عدل الإمام
علي وحلمه وما ارتكبه معاوية وعماله من التعدي على المسلمين. وخوفاً من زيادة التطويل
وقد
تعبت من الكلام اذكر لك حادثة قريبة العهد لايزال صداها يرن في الآذان … آه … آه من القساة
أهل المطامع … أتعرف عبيد الله ابن عباس؟»
قال: «كيف لا أعرفه وهو ابن عم الرسول (ﷺ) وابن عم علي بن أبي طالب. نعم أعرفه».
قال اصغ لما أقصه عليك واعتبر. لما فرغ معاوية من واقعة صفين وتحكيم الحكمين وظفر
بالخلافة بحيلة عمرو بن العاص كما تعلم بايعه أهل الشام وظل عليٌّ في العراق. فلم يقنع
معاوية بما أوتيه من الحكم فبعث سراياه إلى الحجاز والعراق للفتح يدعون الناس إلى بيعته
ونقض بيعة علي. وكان رسوله إلى الحجاز واليمن بسر بن ارطاة فجاء المدينة وتولاها لأن
عاملها
فرَّ من وجهه. ثم جاء مكة هذه منذ شهرين ولا يزال الناس يتحدثون بفرار صاحبها أبي موسى
الأشعري من وجهه بلا حرب. فأكره أهلها على البيعة فبايعه أهل مكة مكرهين وقد كنت مريضاً
ولم
أر وجهه … على أن عمله هذا لا يستوجب ملاماً ولكنه سار إلى اليمن وعاملها عبيد الله بن
عباس
الذي ذكرته لك. فخاف عبيد الله فهرب إلى الكوفة استخلف عبد الله بن عبد المدان فلم يكن
من
بسر بعد دخوله اليمن إلا أنه أمر بعبد الله هذا فقتله وقتل ابنه صبراً … وسمع بابنين
صغيرين
لعبيد الله بن عباس قد ودعهما عند زجل من كنانة بالبادية فأراد قتلهما فبعث إليهما فجاء
الكناني ومعه الطفلان فلما علم أن بسراً يريد قتلهما ذعر وصاح قائلاً: «لمَ تقتل هذين
ولا
ذنب لها فإن كنت قاتلهما فاقتلني معهما» ولم يكن من ذلك الظالم إلا أنه قتل الطفلين
والكناني٢ وبلغني أن الكناني دافع عنهما حتى قتل. ولقد أعجبني قول امرأة من كنانة رأت ابن
ارطاة مارَّاً بعد تلك الفاجعة فقالت له: «يا هذا قتلت الرجال فعلام تقتل هذين والله
ما
كانوا يقتلون الأطفال في الجاهلية ولا الإسلام. والله يا ابن ارطاة إن سلطاناً لا يقوم
إلا
بقتل الصبي الصغير والشيخ الكبير ونزع الرحمة وعقوق الأرحام لسلطان سوء».٣
هذه يا ولدي أعمال معاوية وعماله فأين هي من أعمال الإمام علي فكيف ننقم عليه بعد ذلك ونقول أنه قتل عثمان وإن يستوجب القتل؟
١
أسد الغابة ج٤.
٢
ابن الاثير ج٣.
٣
ابن الاثير ج٣.