طيف قطام
ومازال في مثل ذلك حتى انقضى نصف الليل وهو لم يغمض له جفن ولم يزدد إلا اضطراباً وقلقاً. وضاقت الدنيا لديه فنهض من فراشه وتزمل ببرده وعباءته وتعمم وخرج يلتمس الخلاء. وكان الظلام مخيماً وقد رقد الناس ولم يبق في شوارع مكة أحد. ففرح لذلك الهدوء وسار لا يدري إلى أين وهو غارق في هواجسه ولم يسر قليلاً حتى شعر بالبرد فالتف بالعباءة وظل ماشياً تارة ببطيء وطوراً يسرع على غير هدى فما شعر إلا هو بباب المسجد الحرام وأحسّ لساعته بارتياح. فقال في نفسه لأدخلن المسجد أصلي ركعتين لعل الله يوحي إليّ طريقة تخفف اضطرابي. وكان الباب مفتوحاً وصحن المسجد خالياً فتأبط نعليه ودخل حتى دنا من الكعبة فصلى وسجد فأحس لساعته براحة فطاف حول الكعبة ثم التمس مكاناً وراءها اتكأ فيه وعادت إليه هواجسه. فأرسل بصره يراقب النجوم السابحة في الفضاء وقد اجتذب بصره جمال القبة الزرقاء وأفكاره تائهة في ما أحدق به واشتد البرد عليه فأدخل رأسه في العباءة جعلها خماراً. وكأن التعب والبرد تغلبا عليه فخدر بدنه واستولى عليه النعاس ولكنه لم يكد يغمض جفنيه حتى ابتدرته الأحلام فرأى قطاماً بجلباب أسود وقد أسفرت عن محياها فبدت عيناها المكحولتان ورآها تمشي نحوه حافية القدمين على بساط من ريش النعام الأبيض. فخفق قلبه لرؤيتها وهمّ بالسلام عليها فرآها أعرضت إعراض العاتب وعيناها تتلألآن بالدموع فتفطر قلبه لرؤيتها وساءه إعراضها فهمّ بالإقبال عليها فلم تسعفه رجلاه لما تولاها من الرعدة فناداها يلتمس قربها فلم تجبه وظلت معرضة وقد تحولت عنه ومشت وهي تنظر إليه شزراً ولسان حالها يقول: «لقد خنت عهدي فما أنت أهلٌ لي».
وحاول سعيد اللحاق بها ليخبرها ببقائه على العزم فلم يستطع ولما ابتعدت عنه همّ أن يناديها فأفاق من رقاده فإذا هو وحده بجانب جدار الكعبة والظلام محدق به فمسح عينيه ليتيقن حاله أفي يقظة هو أم في منام ولما تحقق أنه كان في منام حمد الله ولكنه أيقن أنه إذا لقي قطاماً لا يرى منها غير الإعراض.