آخر العهد بأبي رحاب
ولما اقترب من المنزل خفق قلبه مخافة أن يكون جدّه قد أصاب حتفه في غيابه فدخل الدار فرأى السكوت مستولياً عليها فاستبشر والتمس الحجرة التي كان جدّه نائماً فيها فرأى المصباح لا يزال مضيئاً فأطل من الباب فرأى عبد الله جالساً بجانب الفراش وجدّه نائم. فنظر إلى عبد الله كأنه يستطلعه الحال فنهض لاستقباله ووجهه باشٌّ فاطمأن باله وقبل أن يلقي التحية ابتدره عبد الله قائلاً: لقد شغلت بالنا بغيابك فإن جدك أفاق من نومه مراراً والتمس أن يراك ونحن لا نعرف مكانك وقد ألحّ كثيراً في طلبك.
قال: وكيف هو الآن؟
قال: هو في خير وقد رأيناه في راحة لم يذقها منذ أيام.
ولم يتم عبد الله كلامه حتى رأى أبا رحاب يتحرك في فراشه فتقدم سعيد نحوه فإذا هو قد فتح عينيه وأشار إليه بيده فدنا منه وجثا أمامه يلتمس منه إشارة.
فقال أبو رحاب: أين كنت يا ولدي فقد التمسناك مراراً فلم نقف على مكانك.
قال خرجت في حاجة إلى الكعبة واتفق لي حادث شغلني عن المجيء حتى الآن.
فمد الشيخ يده حتى قبض على يد سعيد وضغط عليها كأنه لا يريد أن يفارقه وسعيد صامت لا يبدي حراكاً لشدة تأثره من منظر جده الشيخ وقد شعر أنه إنما ضغط على يده ضغطة الوداع.
فترقرقت الدموع في عينيه والتفت إلى عيني جده فرآها عارقتين بالدمع وهما شاخصتان إليه فتفطر قلبه وهمَّ أن يتكلم فابتدره جده قائلاً: «أراني لا أزال في قلق على مستقبل حياتك وأخشى أن لا تكون استوعبت نصيحتي فقد نصحتك وأنا في آخر أيام الدنيا نصيحة أوحى إليّ أن ألقيها إليك. وقد تركتني الليلة غارقاً في بحار الأحلام وكأن هاتفاً خوّفني من غيابك. هل أنت باقٍ على عهدي يا سعيد».
قال: «لقد عاهدتك يا جداه عهداً وثيقاً أني لا أنوي شراً للإمام علي ما حييت وأنا باق على عهدي وأريدك علماً أني لقيت في الكعبة أناساً يتآمرون على قتله وقتل صاحبيه معاوية وعمرو في يوم عينوه. وتعاهدوا عليه فلم يبق تمت حاجة إلى سعيي».
فبغت الشيخ وحملق بعينيه وصاح قائلاً: «ومن هم هؤلاء».
فقص سعيد خبره مختصراً وختم كلامه قائلاً: «إني لم أعرفهم ولا استطعت اللحاق بهم خوفاً منهم لأني أعزل».
قال: «ألم تعرف الذي تعهد بقتل الإمام علي».
قال: «كلا ولكنني علمت من عرض كلامه أنه من مصر ويغلب على ظني أنه من الخوارج».
فصمت الشيخ برهة كأنه يفكر في أمر هام ولحظ سعيد من شخوص عينيه وذبول أجفانه وتغير سحنته أنه تعب. وأما أبو رحاب فتجلد وقال وصوته يرتجف وقد أصبح لا يستطيع التلفظ بكل مقطع من مقاطع الكلام كأن لسانه أصيب بتلعثم قال: «ياليتني كنت بينهم لأقنعهم بالكف عن ذلك … ولو استطعت استمهال أجلي لسعيت في البحث عنهم فإذا عرفت الساعي في قتل الإمام علي أرجعته عن غيه بالبرهان … إنهم والله ظالموه» … ثم سكت هنيهة ريثما يستريح وعاد إلى الكلام وهو يتلجلج ويقف عن الكلام عند كل شهيق من تنفسه. وكان تنفسه قد أسرع وظهر الاضطراب عليه فتحقق سعيد أن جده في حال النزع فارتعدت فرائصه تجشع قلبه وأسف لحاله ولكنه أصغى لتتمة حديثه فإذا هو يقول: «وأما أنت يا سعيد فأصغ لقولي واعمل بنصيحتي … ولا أقبل منك السكوت عن هذا الأمر … وإنما أنت.. مكلف بالبحث عنه … إنك مكلف بالبحث عن هذا … الرجل في مصر … والشام … والعراق حتى تعلم مقرّه …. فإما أن تقنعه.. بالعدول.. وإما أن تنبئ الإمام بأمره … إني … ألقى … هذا الأمر … على عاتقك … فاحذر … أن تتقاعد عنه. وإلا فاتك … قاتلٌ عليّاً بيدك …. هذه وصيتي لك اختفظ بها ولا تتماهل أو تتجاهل … والله شاهد … على ما أقول. هذه … وصيتي الأخيرة بل … هذه … آخر كلمة أفوه بها في هذه … الحياة الدنيا … وكنت مستغرباً استئخار أجلي … إلى الساعة. وكنت أحسبني … ميتاً منذ أيام ولكن الله … إنما أراد بذلك … أن أكل إليك … بهذا الأمر … هذه آخر وصيتي لك … ابحث … عن هذا الرجل وارجعه … عن غيه … كما أرجعتك ولو أوتيت …. عمراً ثانياً لقمت في بني أمية … وفي الخوارج … خطيباً أصرح ببراءة … الإمام عليّ على رؤوس الأشهاد. ولكن آه … إن الساعة آتية لاريب … فيها … وها إني أستودعك … الله وآخر ﮐ … ﻟﻤ …ة.. أقو …لها لك.. عليّ …. عليّ … دا ….فع … عن عليّ بيدك … وقلبك … ولسا …نك ….»
ولم تخرج هذه الكلمات الأخيرة من فيه حتى اختنق صوته ثم شهق شهقة دوى صوتها في أطراف المنزل وارتخت مفاصله فأفلتت يد سعيد من يده. ونظر سعيد إلى جده فإذا هو قد أغمض جفناه ووقف تنفسه … فجسَّ يده فإذا هي باردة فلمس جبينه فإذا هو كالثلج وقد فتح فاه وأرسل نفسه الأخير وبطلت حركة الحياة فأصبح تمثالاً من تراب. فاقشعر بدن سعيد ولطم يداً بيد وصاح «جداه يا جداه.. وا ويلاه كلمني زودني نصيحة أخرى …» وما من مجيب فأيقن بوفاته وكان عبد الله قد خرج فعاد ولما رأى أبا رحاب قد مات أخبر أهل المنزل فاجتمعوا وعلا النحيب والبكاء.
ولم يكن الحزن على موت أبي رحاب شديداً لتوقعهم ذلك منذ أيام. ولكن سعيداً كان حزنه مضاعفاً لامتزاجه بالهواجس والاضطرابات بما سمعه من جده مع ماهو مقيد به من العهود في الضد من ذلك.