اللجاجة السذاجة
وأقبلا على الكوفة ذات يوم والشمس قد مالت إلى المغيب وكان سعيد قد قضى ذلك النهار وهو يستحث ناقته لعله يدرك المدينة قبل الغروب ليتمكن من المسير إلى بيت قطام إذ لا صبر له على فراقها وهو على مقربة منها. فلما دنا الغروب وهو لم يدخل الكوفة انقبضت نفسه وأدرك عبد الله انقباضه مما آنسه فيه من السكوت التام فأراد أن يصرف ذهنه عن ذلك فقال: «له وهل نحن بعيدون عن منزلك».
قال: «لانلبث أن ندخل المدينة حتى ندنو منه لأنه في أطرافها».
قال: «إني أكاد لا أصدق بوصولي لأستريح من وعثاء السفر وأتخلص من ركوب الجمال فقد أتعبني جريها وخصوصاً في هذا النهار».
قال سعيد: «إني أراني في الضد من ذلك وتحدثني نفسي أن أصلي العشاء في المسجد قبل المبيت».
فأدرك عبد الله أنه إنما يريد زيارة قطام ليطلعها على وصية جده ويرى ما يبدو منها إذا علمت بما عوّل عليه فرأى أن يثنيه عن زيارتها ريثما يفاوضه في الأمر ويهيئا الحيلة في مخاطبتها لئلا يفشلا لعلمه بسلامة نية سعيد فخاف عليه السقوط في ما يخشاه. فقال له: «دعنا نصلي العشاء معاً في المنزل ونصبح إن شاء الله فنصلي في المسجد».
فلم يراجعه سعيد حياءً وقال له: «حسناً رأيت» ولكنه عوّل في باطن سره على الذهاب خلسة إلى منزل العجوز لبابة يتجسس الحال.
وما لبثا أن دخلا الكوفة وقد أمسى المساء فالتمسا منزل سعيد فترجلا واغتسلا وصليا ثم تناولا العشاء وتظاهر سعيد بالنعاس فذهب كلٌ إلى فراشه.
وتبرص سعيد ريثما ظن رفيقه نام فالتف بعبائته وانسلّ إلى بيت لبابة وقضى طريقه يفكر بعبارة يبدأ بها الكلام. فوصل المنزل فرأى لبابة خارجة منه وقد تخمرت ومشت تتوكأ على عكازها فبغت لرؤيتها وحياها فردت التحية وهي لا تصدق أنها تره. فلما تحققت أنه سعيد رجعت وهي تبالغ في الترحاب به وتضحك ضحكتها المعهودة. فاستأنس بلهفتها ثم ما لبث أن تذكر ما جاء به من الأمر الجديد حتى انكمش قلبه ولكنه تبعها حتى وقفا بباب الغرفة فأمرت عبدها أن يضيء المصباح وعادت إلى مخاطبته فسألته عن ساعة وصوله. فقال: «إني وصلت الساعة ومع شدة تعبي من السفر الطويل لم أصبر على مشاهدتك قبل المنام».
فقهقهت قهقهة دوى لها البيت وخيل له لفرط قلقه أن عبد الله يسمعها. فقال لها بصوت خافت:» وما الذي يضحكك يا خالة».
قالت: «لقد أضحكني شوقك إلى رؤية هذا الوجه القبيح (وأشارت إلى وجهها) وأنت إنما تشتاق إلى رؤية وجه أجمل منه … أليس كذلك …».
فقطع كلامها وهو يبالغ في خفض صوته وقال: «لا والله إني الآن في شوق إليك أكثر من شوقي إلى قطام لأني وقعت في مشكل لا أرى أحداً ينجيني منه سواك فأسعفيني برأيك ودهائك. وأرجو قبل كل شيء أن تعتبرى قدومي إليك الان سراً تكتمينه عن كل لسان لأن معي رفيقاً صحبني من مكة فلما وصلنا الكوفة ورأى فيّ ميلاً إلى الخروج أقعدني إلى الصباح فاستحييت وبقيت فلما استغرق في نومه جئت خفية …».
ولم يتم كلامه حتى جاء العبد بالمصباح فدخلا الغرفة وسعيد يقول: «لقد عودتني يا خالة أن تكوني عوناً لي في مصائبي وأنت التي بمهارتك ودهائك أقنعت قطاماً بزواجي فألتمس منك الآن أن تقنعيها بما جئت به إليك».
فعجبت العجوز لاهتمامه الشديد ولو كان قلبها حياً لخفق واضطرب ولكنها تعودت الأهوال ولاقت الغرائب فلم يعد يخيفها أمرٌ. فقالت: «قل ما بدا لك إني مستودع أسرارك ولا آلو جهداً في خدمتك».
فتنهد سعيد وسكت وهي تحدق فيه بعينيها الغائرتين. وبعد هنيهة قال لها: «لقد جئتك بأمر لا أدري كيف أبدأ الحديث به».
قالت: «قل لا تبال ولا تجزع فإني عركت الدهر ولقيت الأهوال حتى لم أعد استغرب أمراً.. قل ما بدا لك».