غاية الدهاء
فلما تحققت لبابة عدوله عن عهده خافت إذا أظهرت له الاستياء أن يبيح بأمرها وأمر قطام إلى عليّ وهما في الكوفة فينتقم عليٌّ منهما فأرادت أن تخادعه فتأخذ منه ولا تعطيه. فقالت: «ولماذا لم تعاهده فإن كلام مثل هذا الشيخ الجليل يعتبر خارجاً من أفواه الملائكة».
فلما سمع سؤالها انشرح صدره فابتسم وقال بكل بساطة «كيف لم أعاهده وهل أستطيع غير ذلك. ولكنني أعترف لك أني عاهدته وخاطري منشغل بقطام وعهدها لعلمي أن ذلك العهد يحرمني منها..» ثم عطف فقال: «ولكنني لما تذكرت حبك لي وغيرتك عليَّ هان الأمر لدي وقلت أن ما يعسر على مثلي يهون على خالتي لبابة.. بالله.. ألا ساعدتني على إقناع قطام بالعدول عن عزمها على قتل الإمام عليّ إنه والله برئ مما اتهموه به.. بالله ساعديني واشفقي عليّ فقد وقعت في حيرة بل هي مصيبة لا ينجيني منها إلا سواك..» قال ذلك وجثا أمامها وهم بيدها وقبلها وقد كادت العبرات تخنقه.
فتظاهرت تلك العجوز المحتالة بالحنو وتبسمت وهي تجذب يدها من بين يديه لتمنعه من تقبيلها وأجلسته في مكانه وقالت: «طب نفساً يا بني إني فاعلة ما تريد وأرجو أن يساعدني الله على إقناعها …».
فلما سمع سعيد قولها لم يتمالك عن الابتسام والدمع ملء عينيه إعجاباً بحنوها وفرحاً بنيل بغيته التي لم يكن يتوقعها ولا بالمنام وفرح بمجيئه في تلك الليلة ومقابلة لبابة قبل مقابلته قطام.
أما لبابة فنظرت إليه وهي تحك ما وراء أذنها برأس سبابتها كأنها تفكر في ما تختلقه من الأسباب لإقناع قطام وهي بالحقيقة تدبر حيلة لخداع سعيد ثم قالت: «طب نفساً ولاتبال فإني أؤكد لك الفوز إذا أطعتني …» فابتدرها قائلاً: «إني طوع إرادتك في كل ما تأمرين وهذا مالي وكل ما أملكه بين يديك بالله اشفقي عليّ».
وكان سعيد يتكلم ولبابة مطرقة. فسكت هو وظلت هي مطرقة ثم استأنفت الحديث بغتة فقالت: «سبحان الله.. لقد مر عليَّ أيام وأنا مستغربة ما يبدو لي من قطام على غير المعتاد والظاهر أن الكلام الذي فاه به جدك في مكة أثر في قطام هنا أو لا أدري ما هو هذا التأثير».
فاندهش سعيد بما سمعه وقال ماذا تعنين؟
قالت: «أعني أني آنست في قطام تغيراً غريباً بعد ذهابك فإنها لم تعد تذكر الانتقام قط وقضت أياماً عديدة كأنها في حيرة أو كأن أمراً طرأ عليها لا تتكلم إلا قليلاً فعسى أن يكون ما غيرك قد غيرها. وعلى كل حال كن في راحة وسكينة وأنا أدبر الأمر فلا تذكر أنك جئت إليّ ولا أنك رأيتني قبل رؤيتها».
قال: «بارك الله فيك. والله إن قضيت لي هذه المهمة لا أدري كيف أكافئك ولكنني أتقدم إليك أن لا تذكري زيارتي هذه أما أحد وخصوصاً رفيقي عبد الله».
قالت: «سمعاً وطاعة فعليك إذاً أن تأتي غداً لزيارتها في منزلها وأكون أنا هناك ولا تزد على السلام والكلام. واحذر أن تذكر شيئاً يتعلق بهذا الأمر إلا إذا هي خاطبتك به وسنرى ماذا يتم.. وهل تنوي اصطحاب رفيقك غداّ».
قال: «إنه سيكون معي ولا بأس من الخوض في الموضوع بين يديه لأنه بمنزلة أخي».
قالت: «حسناً فليكن كما تريد وفقنا الله لما فيه خيرك وراحتك».
فازداد سعيد إعجاباً بغيرتها وحنوها فقال لها: «اسمحي لي أن أقبل يدك فإني لما فقدت جدي الذي كان بمنزلة والدي حسبت نفسي صرت يتيماً ولكنني تحققت الآن من حنوك أني مازلت مرموقاً بعين العناية. ها إني قد ألقيت الحمل على عاتقك فدبري الأمر كما يلوح لك». قال ذلك وقبل يدها مراراً ونهض ونهضت لوداعه وهي تقول له: «نم مرتاحاً وموعدنا اللقاء غداّ في بيت قطام».
خرج سعيد من عندها وقلبه يطفح سروراً لنجاته من شر عظيم. وما دري ما نوته تلك القهرمانة من أساليب الخداع. فلما توارى عنها عادت إلى غرفتها وعملت فكرتها الخبيثة في حيلة تنطلي عليه بحيث يصدق عدول قطام عن عزمها. ولولا خوفها من أن يشي هو بها وبقطام إلى عليّ إذا أنكرت عليه وصية جده لجاهرت بمقاومته ولكنها رأت من الفطنة والدهاء أن تجاريه على رأيه وتحمل قطاماً على مشاركتها في ذلك ثم تحتالان في بقاء المؤامرة مكتومة حتى ينفذ المؤَامرون عهدهم فيقتل عليٌّ. وما درت لبابة أن قطاماً أشد دهاء منها وأعظم حيلة وأنها ستزيد على ذلك وسيلة أخرى للفتك بسعيد على أهون سبيل.
ولم تعد لبابة تستطيع رقاداً قبل مكاشفة قطام بالأمر لتدبير الحيلة قبل مجيء سعيد فنهضت لساعتها وسارت إلى قطام.