لقاء قطام
أما سعيد فإنه شرح والفرح ملء فؤاده حتى أتى منزله فرأى رفيقه لا يزال نائماً لفرط تعبه فسرَّ لذلك سروراً عظيماً ومضى إلى فراشه ولكنه لم يستطع رقاداً لشدة تأثره فقضى ساعات يتقلب على الفراش وقد طال ليله وهو يفكر في ساعة اللقاء غداً ولا يصدق أن يلقى قطاماً على مثل رأيه. فلما تصور عدولها عن قتل عليّ كاد يطير من الفرح بما سيناله من الاقتران بها ثم يعترضه كلام جده وما كلفه به من السعي في الدفاع عن عليّ وردع الساعي في قتله فيختلج قلبه في صدره لهول ذلك الأمر. ولكنه لم يكن شيئاً لديه بالنظر إلى ما يتوقعه من السعادة بالحصول على قطام.
ولم تغمض أجفانه إلى الصباح ولم يكد ينام حتى أفاق مذعوراً وقد رأى شعاع الشمس يسطع على جدار غرفته فأسف لإبطائه في الفراش والوقت ثمين فنهض لساعته وخرج يلتمس عبد الله فإذا هو قد لبس ثيابه ووقف يصلي فصلى معه وهو لا يفقه ما يقول.
فلما فرغ من الصلاة قال له عبد الله: لقد أبطأت في رقادك يا أخا أمية.
قال: إنما أبطأت لهول ما لقيناه من التعب في الطريق.
فصدقه عبد الله وجلسا على الطعام وسعيد غارق في بحار الهواجس وقد أدرك عبد الله ذلك فيه ولكنه حسبه من قبيل الشوق إلى قطام فقال له ألا تنوي الذهاب إلى قطام.
قال: بلى أرى أن نسير إليها لعل الله يأخذ بيدنا ونرى منها انصياعاً للحق فتعدل عن عهدها.
فأراد عبد الله أن يختبر شأنه فقال: «وهب أنها لم تقبل بذلك فماذا تفعل هل تبقى على عزمك أم ترجع عن وصية جدك؟»
قال سعيد: «إننا نبذل جهدنا في إقناعها فإذا لم تقتنع ظللنا على عزمنا فإن وصية جدي مقدسة».
فسرّ عبد الله لثباته وهو لا يعلم أن سعيداً لم يقل ذلك إلا بعد ما أملته به لبابة من إقناع قطام ولولا ذلك لتردد في الجواب كثيراً وربما فضل البقاء على عهد قطام على احترام وصية جده لأن غرامه بتلك الفتاة الفتانة غلب على كل جوارحه.
فلما آنس عبد الله ذلك الثبات فيه استعجله في الذهاب إلى قطام مخافة أن يطرأ عليه ما يضعف عزيمته. وكان عبد الله قد عوَّل في باطن سره إذا آنس فيه تردداً أن يثنيه عن الذهاب إليها. فلما فرغا من الطعام نهضا ومشيا يلتمسان بيت قطام.
ولا حاجة بنا إلى بيان ما جال في خاطر سعيد مما سيقاسيه ساعة اللقاء من الاضطراب ولكنه سار مطمئن الخاطر لما ألقته إليه لبابة من المواعيد.
ووصلا المنزل فأطلا على الحديقة فاختلج قلب سعيد في صدره لتذكره الليلة التي لقي بها قطاماً هناك وما وقع له معها من تبادل عبارات الغرام. فدخلا الحديقة وفيما هما يسيران بين النخيل رأيا لبابة واقفة بالباب وهي تبتسم. فلما رآها سعيد استبشر وتشدد فمشى ورفيقه يسير في اثره حتى دنوا منها فحياها سعيد كأنه لم يرها بعد رجوعه. فسلمت عليه فقدم لها رفيقه فعرّفهابه فرحبت بهما ودخلا حتى أقبلا على غرفة قطام فإذا هي واقفة إلى نافذة تطل على البحيرة وقد لبست جلباباً أسود فوقه خمار أسود فلما أقبلا أرخت خمارها وتحولت نحوهما فحياها سعيد وذكر اسم رفيقه لها وهو يقول: «لقد أتيت ومعي صديقي وأخي عبد الله فإنه أنيسي ومساعدي».
فرحبت بهما ودعتهما للجلوس فجلسا وجلست هي وكلهم سكوت وبعد السكوت برهة تكلمت العجوز قائلة: «لقد أوحشتنا يا سعيد بغيابك طول هذه المدة وقد أخبرنا ريحان أنك أتيت يوم سفرك إلى هذا المنزل فلم تر قطاماً فشغلت بالنا لسرعة ذهابك فعسى أن يكون خيراً».
فتنهد سعيد وقال: كلا إنه لم يكن خيراً يا خالة لأني ذهبت إلى جدي أبي رحاب في مكة إجابة لدعوته على يد أخي عبد الله.
فأظهرت لبابة البغتة وقالت: وماذا عسى أن يكون سبب استدعائك.
قال: إنه دعاني لأراه قبل موته بعد أن هرم وغلب عليه الضعف والمرض ولما تحقق دنو أجله أراد أن يراني قبل الممات فسرت ولم ألبث معه إلا ليلة ثم قضى نحبه رحمه الله.
فتظاهرت قطام باستغراب الخبر كأنها لم تسمعه قبلاً. وقالت: «هل مات جدك؟.. رحمة الله عليه وعزاك الله وأبقاك». ثم تنهدت كأنها تذكرت فقيديها وقالت: إن موت الأهل شديد الوطأة يا سعيد وخصوصاً إذا كان الميت لم يهرم مثل أبي رحاب.
وكان عبد الله يراقب حركات قطام وكان قد سمع بجمالها فلم يلم سعيداً على افتنانه بها ولكنه خاف أن تبقى على عهدها فتخرج من نصيب سعيد فودّ الاستطراق إلى الموضوع ليرى ما يبدو منها ثم تذكر أن وجوده هناك لأول مرة قد يكون باعثاً على تجنب البحث في ذلك الموضوع فتظاهر بغرض يحتاج إليه خارجاً ونهض وخرج وخرجت لبابة في اثره إتماماً لحيلتها.