منتهى الدهاء
فلما خلت قطام بسعيد قالت له: «ومن هو هذا الشاب هل أنت واثق به؟»
قال بنغمة المحب المفتون: «إنه رفيق صباي وموضع أسراري ولا أخشى بأساً من إطلاعه على كل شيء.
قالت: وهل أطلعته على عهدنا؟
قال: نعم يا حبيبتي وهل ترين ما يمنع ذلك؟
قالت: كلا لا أرى مانعاً ولكنني أودّ أنك لم تطلعه عليه لخاطر خطر لي بعد ذهابك إلى مكة.
فاستبشر سعيد بهذا الاستهلال فقال: «لا أرى بأساً في ذلك لأني أعرف ضميره ولي فيه ثقة تامة. وما الذي خطر لك؟»
قالت: «سأقصه عليك وأرجو أن تطاوعني عليه ولا تطالبني بما سبق من العهود».
قال: قولي ما تريدين. وما تريدينه إنما هو العهد الذي نتعاهد عليه. فإني رهين إشارتك.
قالت: أتذكر أنك جئت إلينا يوم سفرك ولم تجدني في البيت؟
قال: كيف لا أذكر ذلك وقد كان له تأثير شديد علي.
قالت: أتدري أين كنت يومئذ؟
قال: كلاّ.
قالت: خرجت إلى أهلي لزيارة. ولم يكن غرضي مجرد الزيارة ولكنني بعد أن عاهدتك على قتل أمير المؤمنين شعرت بقلق واضطراب ولم أذق رقاداً تلك الليلة.
فلما أصبحت قلت في نفسي لعل سبب هذا القلق ذنب ارتكبته بما سعيت فيه على الإمام وهو لا يستحقه. فلاح لي أن أمضي بنفسي إلى أهلي وأبحث عن حقيقة الواقع فرأيت بعد البحث أن الذنب في قتل والدي وأخي لم يكن ذنبه هو وتحققت أنه برئ وأنه نصح لهما مراراً قبل الواقعة أن يرجعا فأبيا ولما اختدم النزال وعلم أنهما تحت خطر القتل أوصى أن لا يصيبهما أحد بسوء. ولكن بعض الأغرار قتلهما بغير علمه ولما علم هو بذلك غضب على القاتل وانتقم منه. فشعرت في تلك الساعة بارتكابي أمراً عظيماً بما نويته وعولت على تحويلك عما تعاقدنا عليه. فقضيت مدة غيابك وأنا في حيرة لا أدري كيف أبدأ بإقناعك. وحفظت ذلك في سري حتى عن خالتي لبابة.
ولم يتمالك سعيد عند سماعه ذلك عن الوقوف بغتة بغير أرادته وقبل أن يجيبها على خطابها نادى عبد الله ولبابة فجاءا فالتفت سعيد إلى عبد الله وقال له تعال اسمع يا أخي ما دبره الله لنا من أسباب السعادة. فإننا لم نتكلف في إقناع قطام إلى مشقة بل هي تريد إقناعنا بالعدول عن العهد الذي أخبرتك عنه.
فأظهرت قطام الاستغراب وقالت: وكيف ذلك يا سعيد وما الذي جئتنا به عساه خيراً.
فتعرضت لبابة للكلام فقالت: يظهر أنك جئتها بمثل ما جاءتك هي به.
قال: «نعم يا خالة وأحمد الله على ذلك فإني جئت من مكة وقد اقتنعت ببراءة الإمام علي وتقيدت بعهد عاهدت به جدي أن لا أقتل عليّاً وكنت خائفاً أن لا توافقني قطام عليه وهي إذا لم تفعل ذلك كنت من أشقى الناس. فالحمد لله على ما جرى» وجلس يقص عليهم حديث جده ووصيته فظهرت لوائح البشر والسرور على الجميع. ثم استطرد إلى حديث المؤامرة فلما ذكر أن أحد المؤَامرين تعهد بقتل الإمام علي تظاهرت قطام بالغضب وقالت: ألم تعرف من هو الرجل؟
قال: لم أعرفه ولكنني علمت من سياق الحديث أنه من فسطاط مصر.
قالت: أمّا وقد علمت بعزم هذا الرجل فأصبح السكوت عنه مشاركة له في القتل فلابد من ردعه أو قتله.
فابتسم سعيد لذلك الاتفاق الغريب وقال: «وقد فاتني أن أخبرك بأن من جملة وصية جدي أن أسعى في ذلك جهدي».
فقالت: «وهذا ما أراه أنا أيضاً لأن السكوت عنه أصبح جريمة ولكني أرى أن يبقى أمر هذه المؤامرة مكتوماً بيننا فلا تطلع عليه أحداً لئلا يسبقنا أحد إلى اكتساب الفخر في رده أو أن المؤَامر إذا علم باشتهار أمره ونحن لم نعرفه بعد يعجل بالقتل فيذهب سعينا عبثاً. ألا ترى ذلك يا عبد الله؟»
فاندهش عبد الله من ذلك الاتفاق الغريب ولو علم بزيارة سعيد للبابة لانكشف له سر الحيلة ولكنه أخذ الأمر على ظواهره فقال: «لقد رأيت الرأي الصواب وها إني مستعد للسعي في ردع ذلك الرجل مع أخي سعيد».
قالت: وما الذي تنويان فعله؟
قال: سعيد أرى أن نذهب إلى الفسطاط ونبحث عن الرجل لنعلم من هو أولاً فإذا عرفناه هان علينا ردعه».
فقالت قطام وما الفائدة من ذهابكما وإنما لا تعرفان الرجل ولا تعلمان شيئاً من أمره وكيف يتأتى لكما معرفة اسمه. هل ذهبتما إلى الفسطاط قبل الآن وهل تعرفان أحداً هناك؟»
قال عبد الله: إني أعرف الفسطاط ولكنني لم أقم طويلاً ولا أعرف أحداً من أهلها ولكننا نبحث جهدنا.