غادة الكوفة
وكان في ضاحية الكوفة على شاطئ البحيرة حديقة من نخيل حولها سور من جذوع النخل يحيط بالحديقة إلا من جهة البحيرة. وفي وسط الحديقة بيتٌ مبني من اللبن يدلُّ شكلهُ على أن سكانهُ من أهل اليسار وقد يخيل لك إذا دخلت الحديقة أنهُ مسكن بعض الأمراء ذوي الخدم والحشم لما ترى بين نخيله من آثار المعالف والأوتاد والسلاسل والقيود. وترى جذوع بعض النخيل قد تأكَّلت من شد الأفراس إليها على توالي الأيام أو من تعهد الأفراس تقشيرها بأسنانها وهي مشدودة إليها.
ولو دخلت المنزل لرأيتهُ عبارة عن دار وثلاث غرف مستطرقة بعضها إلى بعض مفروشة أرضها بحصر من سعف النخل فوقها جلود الماعز إلاَّ غرفة في أرضها طنقسة جميلة عليها وسائد من الخز. وفي بعض جوانب الغرفة مصباح ضعيف النور. وعلى إحدى تلك الوسائد فتاة في مقتبل العمر أشرق وجهها بماءِ الشباب. وقد حلت شعرها الأسود فأرسلتهُ على كتفيها فحجب بعض جبينها وغطى عذاريها فحجب قرطيها وسالفيها ولكنهُ زاد عينيها كحلاً وإشراقاً. ترى تلك العينين الدعجاوين البراقتين قد غشيهما الدمع وأخذ ينحدر على وجنتين محمرتين بينهما أنف دقيق مستقيم تحتهُ فم صغير. فإذا زاد انسكاب الدمع استلقتهُ بأطراف جدائلها أو بأحد كميها. وكانت لابسة جلباباً أسود حداداً على فقيديها. ولم يزدها ذلك الحداد إلاّ جمالاً وفتنة. وكأَن تلك الغادة استأْنست بوحدتها فأطلقت لنفسها عنان البكاءِ حيث لا رقيب ولا عدو فأخذت تلطم خديها وتندب فقيدين عزيزين قتلا في يوم واحد.
وكانت قطام ثابتة الجأش شديدة الانتقام ذات حيلة ودهاء ما انفكت منذ قتل والدها وأخوها وهي تندبهما وتلتمس الانتقام لهما ولكنها لم تكن تستطيع المجاهرة بذلك والكوفة مقرُّ الإمام علي ومجتمع أنصارهِ وشيعتهِ. فأقامت في منزلها في ضاحية الكُوفة وحيدة ليس معها سوى عبد كهل ربي في أهلها منذ صباه. فلما بليت بمصيبتها هجرها سائر الخدم والأعوان إلاَّ هذا. وكانت ترتاح إلى بث شكواها لهُ وهو يخفف عنها ويعدها بنيل المرام.
وكانت قد انفذتهُ في أصيل ذلك اليوم يستقدم لها عجوزاً من مولّدات الكوفة كانت قد ربيت بين ذراعيها منذ نعومة أظفارها وهي تحنُّ إليها حنين الوالدة. فطال غيابهُ وسدل الليل بقائهُ ولم يعد. فانشغل خاطرها وشغلت عن أحزانها بالهواجس لانفرادها في ذلك المكان. ولكنها كانت إذا سكتت هنيهة تذكرت والدها وأخاها ومن كان يقيم في تلك الدار من الخدم والعبيد فتعود إلى البكاء والنحيب.