الاجتماع السري
فعجب عبد الله لأمره وقال في نفسه لابد أن يكون هذا الرجل من جملة أهل ذلك الاجتماع السريّ وقد نزل في نفق أو نحوه. فالتمس المكان الذي ظنه اختفى فيه فوجد هناك منحدراً يظهر لأول وهلة أنه مسدود فنزل فيه وهو يخطو الهويناء حتى انتهى إلى ظلمة دامسة فوقف وأصاخ بسمعه فسمع لغطاً عميقاً فاستبشر بالوصول إلى المكان المطلوب ولكنه لم يكن يعرف مدخل تلك المغارة وخاف أن يستغشه القوم فيقتلوه.
فوقف برهة يتردد بين أن يسير متلمساً أو يرجع فيأتي بسعيد. ثم رأى أن يتحقق المجتمع قبلاً ثم يعود فخطا بضع خطوات وهو لا يرى شيئاً أمامه فلطم رأسه بالسقف فحنا ظهره وداهمه العطاس لرطوبة الهواء فعطس عطسة فدوى لها المكان وما شعر إلا وقد ظهر نور ضعيف وتقدم بضعة رجال كلهم ملثمون وعليهم أردية سوداء تزيدهم وحشة فقبضوا عليه وهو لا يبدي حراكاً. ونزلوا به في ذلك الدهليز إلى قاعة تحت الأرض واسعة وكل جدرانها وسقفها مغطاة بنسيج أسود مما يجعل المنظر رهيباً ولولا شمعات مضيئة في بعض جوانب المكان لكانت الظلمة لا تطاق لكثافتها. ونظر عبد الله إلى ما حوله فرأى في وسط القاعة دكة مغطاة بملاءة سوداء لم يدر ما تحتها ولكنه لم يستطع التأمل وقد أحدق به بضعة عشر رجلاً التحفوا العبي تحتها السيوف وكلهم ملثمون. فخاطبه واحد منهم يسأله عما يريده.
فقال: إني جئت أشارككم في ما أنتم فيه.
قال: وما أدراك ما نحن فيه؟
قال: علمت أنكم تدعون الناس إلى نصرة الإمام عليّ أليس ذلك ما تدعون إليه.
قال: وما شأنك وذلك؟
قال: شأني هو شأنكم. لا تسيئوا الظن بي إني قادم من الكوفة لهذه الغاية.
فقال له رجل آخر: كيف تكون أموياً وتدعي نصرة الإمام عليّ.
فاشتبه عبد الله بصوت مخاطبه أنه صوت صديقه الغفاري الذي نزل عنده في ذلك الصباح.
فقال له: ألست أنت صديقي الغفاري. اصدقني ولا نخف إني والله جئتكم بخبر هام إذا أشركتموني في أمركم أطلعكم عليه وتحققتم صدق قولي.
فقال الغفاري: إذا كنت صادقاً في ما تقول تعال معي. ومشى فتبعه إلى الدكة في وسط القاعة ورفع الملاءة السوداء فإذا هناك مصحف فوقه سيف مسلول وقال له ضع يدك على هذا السيف وأقسم بالله أنك حليف للإمام علي تنصر نصيره وتحارب عدوه.
فوضع عبد الله يده على المصحف والسيف معاً فشعر ببرودة السيف فارتعشت أنامله ولكنه أقسم لهم كما أرادوا.
ثم قاده بيده إلى دكة أخرى رفع غطاءها وتناول عنها قارورة فيها مسحوق أسود كأنه الكحل فاشتاق عبد الله لمعرفة ما فيها فقال وما هذه. قال هذه قارورة فيها بقية من رماد ابن أبي بكر الذي أحرقتموه بالنار ظلماً فإذا شئت الهداية ونصرة الحق كما تدعي وجب عليك أن تكتحل بهذا الرماد وتبكي ذلك القتيل المظلوم وتعاهدنا على الأخذ بثأره. فهل أنت قابل بذلك باق على قسمك؟
قال إني باق على ما تريدون وقد قلت لكم الصدق فلا تستغشوني.
فتقدم إليه صاحبه ففتح القارورة وأدخل فيها ميلاً علق عليه بعض الرماد فأعطاه إلى عبد الله فاكتحل به فهاجت عيناه وانسكب الدمع بالرغم عنه فشاركه الرفاق البكاء.
ثم أزاح الغفاري لثامه وقال له: نعم إني صديقك كما قلت ولكن اعلم أنك إذا كنت على غير ما تقول فإني أكون عدوك أهدر دمك بحد هذا السيف. قل ما بدا لك.
فلما اطمأن عبد الله تذكر سعيداً فقال ولكن لي رفيقاً أريد أن أدعوه إليكم ليشهد ما نحن فيه ويشاركنا في هذا الجهاد.
فقال له الغفاري إنك غير خارج من هذا المكان إلا بعد خروجنا جميعاً فقل ما تريده.
فقالوا إن رجالنا يعدون بالآلاف ونحن وهم وأموالنا وكل ما نملكه تهدر حلالاً في نصره الإمام ابن عم رسول الله.
وهمّ عبد الله بإتمام الحديث فاعترضه أحدهم قائلاً: عرفناك أموياً من ألد أعداء الإمام كما ذكرت فما الذي حملك على نصرته حتى خاطرت بنفسك وجئت هذه البلاد.
فأخذ يقص عليهم حديث أبي رحاب ولكنه لم يكد يقول كلمتين حتى سمعوا وقع حوافر الخيل فوق رؤوسهم وقد ارتج المكان فوقهم بالجلبة فأنصتوا ووقع الرعب في قلوبهم وخيل لهم أنها دسيسة من عبد الله فهمّوا بقتله ولكنهم ما لبثوا أن رأوا أنوار المشاعل ممنبعثة من مدخل الدهليز وقد انهالت الشرطة عليهم فأرادوا الدفاع عن أنفسهم فلم يفلحوا فشدوا وثاقهم وساقوهم في ظلام الليل إلى الفسطاط.