السجينة الأمينة
ومكث سعيد في الجامع حتى دنا الغروب ولم يعد عبد الله فتردد برهة بين أن يذهب إلى عين شمس أو ينتظر عود عبد الله ثم غربت الشمس فلم ير بداً من المسير إلى عين شمس كما أوعز إليه. فخرج من الفسطاط وجعل المسلتين وجهته والظلام يكاد يحجبهما عنه فمشى وقد أوجس خيفة من إبطاء عبد الله ولم يعد يرى المسلتين إلا إذا برزتا في الأفق. ثم اختفتا ولم يعد يراهما وخاف أن يضل الطريق. وفيما هو في ذلك سمع دبيباً وقرقعة كأن جنداً قادماً وراءه فتنحى عن الطريق فإذا بكوكبة من الفرسان مرت به مسرعة تلتمس عين شمس فاضطرب وخاف الدسيسة. والتفت إلى يمينه فرأى بيتاً قائماً في بستان. فلاح له أن يتحول إليه يستفهم أهله عن الطريق فلما دنا منه سمع صوتاً رخيماً خراجاً من بعض جوانبه استوقف انتباهه فوقف وأصاخ بسمعه فسمع صوتاً رخيماً يمازجه بكاءٌ ولم ير هناك نوراً ولا رأى أحداً في البستان فالتمس باب البيت فإذا هو موصد وقد وضح لديه صوت الباكي فتنصت فسمع صوت امرأة تبكي وتقول: «ألا تخاف الله يا ظالم أما كفاك ما واطأت عليه من قتل البرئ حتى رميت الوفا من الناس تحت خطر القتل الفظيع … هل من ينبئ هؤلاء الأبرياء بما وشوا به عليهم فينقذهم من خطر الموت».
فلما سمع تلك العبارات أقشعر بدنه ولم يعد يصبر على استطلاع سبب ذلك البكاء. فقرع الباب قراعاً خفيفاً فانقطع الصوت بغتة فصبر هنيهة وكرر القرع ويده ترتعش من شدة التأثر فلم يسمع شيئاً فازداد شوقاً لاستطلاع ذلك السر ولكنه خاف أن يقع في مكيدة وهو غريب هناك فلبث برهة والهواجس تتقاذفه وقد حدثته نفسه أن بين ما سمعه وبين ما يسعى في البحث عنه علاقة كبرى. وكان الفرسان الذين مروا به قد بعدوا عنه ولم يعد يسمع من وقع حوافر أفراسهم غير الدوي البعيد. فأيقن أنهم يلتمسون عين شمس ولم يفهم سبب ذهابهم إليها في ذلك الليل. وبعد التأمل بما سمعه ورآه اعتقد أن في الأمر سراً يهمه الإطلاع عليه.
فهز الباب بيده هزاً شديداً كأنه يريد فتحه بالعنف فلم ينفتح لأنه موصد ولم يعد يستطيع صبراً والوقت ضيق فقال بصوت خافت: «هل في المنزل أحد يفتح الباب إني غريب ضللت الطرق».
فأجابه الصوت من الداخل «ليس في البيت سواي والباب مقفل لا سبيل إلى فتحه».
فازداد سعيد دهشة واستغراباً وقال: «من أنت أيها المخاطب إني أراك في ضيق فهل من سبيل إلى إنقاذك».
فأجابه الصوت: «يا حبذا ذلك إذا استطعته إني حبيسة بالرغم عني. من أنت؟»
قال: «قلت لك إني غريب ضللت الطريق أريني وجهك أو أرشديني إلى وسيلة افتح بها الباب».
قالت: «عالج الأقفال بالعنف لعلك تستطيع فتحها فتنقذني وربما أنقذت الوفا من الناس معي».