الشك واليقين
فثارت الحمية في رأسه واستل خنجره وجعل يعالج الأقفال وهي تساعده من الداخل حتى فتح الباب فبرزت منه فتاة محلولة الشعر عليها رداء أهل الفسطاط ولما رأت سعيداً قالت: من أنت؟ اصدقني الخبر.
قال: بل أنت اصدقيني ولا تخافي لقد سمعتك تندبين الوفا من الناس فمن هم أولئك الألوف.
فتفرست فيه وتفرس فيها فلم يعرفها ولا عرفته لشدة الظلام.
فقالت له: من قال لك أني أندب الوفا.
قال: سمعتك بأذني.أفصحي ولا نخافي.
قالت: وما يهمك من أمر هؤلاء الألوف.
قال: «أخاف أن أكون أنا منهم …».
قالت: وما الذي جاء بك إلى هذا المكان.
قال: كنت ذاهباً إلى عين شمس فتهت وجئت هذا المنزل لأسأل أهله عن الطريق فسمعت بكاءك ويحدثني قلبي أن حديثك يهمني. قولي لقد نفذ صبري.
قالت: أني أخاف العيون ولا أثق بأحد بعد أن غدر بي والدي.. فكيف أثق بالغرباء.
قال: رب غريب أقرب من القريب قولي لا تخافي.
وفيما هما في ذلك سمعا وقع الحوافر وصوت الضوضاء من ناحية عين شمس فدخلت الفتاة الغرفة وجرت سعيداً بثوبه ولم تفه بكلمة فدخل في اثرها وقد تولته الدهشة ولبث صامتا. ولم تمض برهة حتى دنت الضوضاء منهما وسمعا من بين الأصوات قائلاً يقول: «لقد وقعتم في أيدينا أيها الخائنون وعرفنا دسائسكم» وسمعا لفظاً كثيراً من هذا القبيل فظلاّ صامتين حتى مر الفرسان كلهم وهم يسوقون جماعة من المشاة موثقين.
فلما تواروا عن البيت لطمت الفتاة وجهها وقالت: «لقد نالوا بغيتهم قبحهم الله وقبضوا على الجماعة».
فقال: وأي جماعة؟ هل قبضوا على جماعة عين شمس؟
قالت: نعم إنهم قبضوا عليهم وا أسفاه.
فصفق سعيد بيديه وخرج ليطل على الفرسان كأنه يريد أن يتحقق طريقهم.
فقالت له: يظهر أنك كنت سائراً إلأيهم.
قال: نعم.
قالت: لقد نجاك الله من أيديهم ولم يكن ضلالك إلا وسيلة لنجاتك.
فاضطرب سعيد واختلج قلبه في صدره وقال بالله عليك أفصحي يا أخيه فقد نفذ صبري وقد علمت غرضي فأخبريني عن حقيقة أمرك.
قالت: لم يعد يمكنني البقاء هنا مخافة أن يأتي أحد فيراك معي فتكون العاقبة وخيمة علينا.
قال: وهل تريدين أن نبعد من هذا المكان.
قالت: نعم هلمّ بنا فإذا خلونا تحادثنا وعساك أن تتلافى أمراً لا أزال خائفة من وقوعه وهو شر عظيم. قالت ذلك وخرجت من الغرفة فمشت أمامه وهو يتبعها حتى خرجا من البستان وأوغلا في الحقول وهو يسير في أثرها إلى حيث لا يدري وكلاهما صامتان لا يفوه أحد بكلمة حتى دنوا من بناء عالي الجدران كأنه بلا باب. فقالت له: هذا دير للقبط فلندخله بحجة الزيارة فنكون في مأمن ومشت أمامه إلى باب صغير في أسفل الحائط مصفح بالحديد فقرعته فأطل عليها من نافذة في أعلى الحائط راهب في يده مصباح وقال من يقرع الباب.
قالت: إننا غرباء نلتمس زيارة الدير.
ولم تمض هنيهة حتى فتح الباب وسمع لفتحه صرير فدخلاه حانيي الرأس لضيقه فأشرفا على دهليز دخلا منه والراهب يسير بالمصباح أمامهما حتى انتهيا إلى الكنيسة فنظر الراهب إليهما في نور المصباح فعرف الفتاة أنها من أهل الفسطاط بل هي من أعيانهم فسرّ من زيارتها ورحب بها وأدخلهما إلى غرفة في الجانب الآخر من الكنيسة فيها مصباح فسألهما إذا كانا يحتاجان إلى شيء فقالا كلاّ فتركهما ورجع.