كشف السر
أما سعيد فتأمل الفتاة في النور فإذا هي شابة في مقتبل العمر جميلة الطلعة وقد أحمرت عيناها وتكسرت أهدابها من البكاء ولم يزدها ذلك إلا جمالاً. وكانت قد ضفرت شعرها في أثناء الطريق وغطت رأسها بطرف ثوبها. فجلسا على وسادة فوق حصير وسعيد يتلهف لاستطلاع حديثها وقلبه يخفق لما يتوقعه من النبأ الغريب فابتدرها بالسؤال حالاً عن حقيقة أمرها.
فنظرت إليه ولم تكد تتأمله حتى قالت: «ألعلك أحد الغريبين اللذين وصلا الفسطاط في صباح هذا اليوم.
قال: نعم إني هو وما أدراك بذلك.
قالت: رأيتكما مع جارنا الغفاري وها أني أقص عليك خبري الغريب والتمس منك أن تشرع في ملافاة الخطر العظيم الذي سيدهم المسلمين قريباً.
قال بلهفة: قولي إني لهذا الأمر أتيت الفسطاط فعسى أن أكون قد وقعت على ضالتي.
قالت: إني أطلعت على سر لا أظن أحداً عرفه قبلي … ألست على دعوة الإمام علي.
قال: بلى إني على دعوته وقد جئت في سبيل نجدته.
وهمّت بالتكلم ثم توقفت برهة وأطرقت فلحظ سعيد ترددها وأدرك أنها ساءت الظن به فقال لها: لا تظني السر الذي ستبدينه لي مجهولاً لدي وإذا شئت قلته لك. ولاطمئنان بالك أقول أنه يتعلق بالإمام علي وفيه خطر على حياته ….
فاطمأنت ولكنها تنهدت وقالت: «اعلم يا سيدي أن والدي يصنع السلاح ويبيعه في الفسطاط وقد ربيت وأنا أسمعه يتشيع للإمام علي فانغرس حب هذا الإمام في قلبي وما أنا في حاجة إلى امتداح والدي له وهو ابن عم الرسول وصهره ولكنني ذكرت لك امتداحه لأذكر لك التغير العجيب الذي طرأ عليه.
«فما زلنا ندعو لعلي بالنصر حتى كانت واقعة صفين منذ بضع سنين فرأيت في والدي فتوراً من هذا القبيل ولكنه لم يذكر لنا شيئاً صريحاً بهذا الشأن. على أني كثيراً ما كنت أراه يختلي بجار لنا من بين مراد كان يعلّم الناس القرآن وكنت أحسبه من أهل التقوى … (قالت ذلك وتنهدت) ولكنني وجدته واأسفاه من أهل العداء. ومازالا يتساران في أمر هذا العداء ولا يجرآن على التظاهر به لأن مصر كانت لاتزال في حوزة الإمام علي وعاملها محمد بن أبي بكر. فلما جاءنا ابن العاص بخيله ورجله وحارب دعاة علي فقتل ابن أبي بكر رحمه الله قتله لم يسبق لها مثيل في الإسلام استقام الأمر للأمويين فجاهر والدي بمعاداة عليّ وكان جارنا المرادي يزيده كرهاً له. فعلمت أنهما تشيعا للخوارج فظللت مع ذلك صابرة كاظمة إذ لا سبيل لي إلى شيء أعمله وأنا فتاة ضعيفة كما ترى. وكان والدي يظنني على دعوته. ففي ذات يوم جاءنا ذلك المرادي خاطباً ووافقه والدي أن أكون خطيبة له فلم أجب لا حسناً ولا قبيحاً خوفاً من إكراهي على الزيجة. ولكنني صممت في باطن سري أني إذا تحققت عزمه على الزواج فررت وتركته ومازلت أماطل في كتابة العقد إلى الآن».