العجوز لبابة
وفيما هي في ذلك سمعت وقع أقدام مسرعة عرفت أنها خطوات عبدها ريحان فأجفلت ولكنها استأْنست بهِ فوقفت وأسرعت لاستقبالهِ. وكان ريحان طويل القامة شديد السواد خفيف العضل سريع الحركة جاحظ العينين أفطس الأنف عظيم الوجنتين بارز الأسنان ويزيدها بروزاً تدلي شفتهِ السفلى وانحسار شفتهِ العليا وكان يستهلك في خدمة سيدتهِ فابتدرها بالسلام. فقالت وما الذي أخرك يا ريحان وإنت تعلم أني وحيدة هنا. أين هي لبابة.
قال: إنها قادمة سريعاً.
قالت: وما سبب غيابك حتى الآن.
قال: كنت في انتظارها وهي تخاطب شاباً وتجادلهُ ….
قالت: وأي شاب
قال: لا أدري … ها قد أتت وهي تقصُّ عليك الخبر مفصلاً.
وما أتمَّ كلامهُ حتى دخلت العجوز تتوكأُ على عكازها وقد احدودب ظهرها وأحناها الكبر فزادها قصراً ولكنها ما زالت سريعة الحركة شديدة العصب وكانت عمصاءَ العينين غائرة الفم لخلو فكيها من الأسنان مجعدة الخدين غائرتهما. فتقدمت إلى قطام وقد غطت شعرها الشائب بنقاب أسود يكاد يجر ورائها لطولهِ وقصرها. وحالما دنت منها قبلتها وأخذت تخفف عنها وتقول لا بأس عليك يا ابنتي اعذريني لإبطائي في الحضور.
فلم تزدد الفتاة إلاَّ بكاءَ وهي تقول ما الذي يشغلك عني يا خالة وأنت تعلمين أن ليس لي معزٍّ في أحزاني سواكِ.
قالت: هوّني عليك يا قطام واستريحي فقد جئتك بالفرج بإذن الله.
قالت: من أين يأتيني الفرج ولا يفرج كربتي إلاّ الانتقام … الانتقام. قالت ذلك وحرقت بأسنانها وهي تتشاغل بجمع شعرها وإرسالهِ إلى وراء ظهرها. ثم مسحت عينيها بكمها الطويل وأرسلتهُ إلى كتفها فبانت أساورها ودمالجها حول معصمها الممتلئ ونظرت إلى العجوز كأنها تسألها الإيضاح.
فضحكت العجوز وهي تنظر إليها وكأنها تذكرت أمراً محزناً فقطعت ضحكتها بغتة فاستاءَت قطام من ضحكها وهي تبكي وقالت ما بالك تضحكين لعلك تهزأَين بكلامي.. إني والله غير قانعة بغير الانتقام.
فأمسكتها العجوز بيدها وأقعدتها على الوسادة وجلست إلى جانبها ونظرت إلى ريحان نظرة فهمَ منها أنها تلتمس خروجهُ لتخلو بقطام. فخرج
فلبثت قطام صامتة تنتظر ما تقولهُ العجوز. فإذا هي قد تنحنحت كأنها تتهيأُ لحديث طويل ثم قالت وماذا تريدين الآن يا قطام؟
قالت: أريد الانتقام لوالدي وأخي فقد قتلهما عليُّ ظلماً ولابد من الانتقام.
قالت العجوز: ما قولك إذا دبَّرت لك من ينتقم عنك؟
قالت: ومن ينتقم. قولي …
قالت: طوّلي بالك ولا تكوني لجوجة.. أتعرفين سعيداً.
قالت: وأي سعيد.
قالت: سعيد الأموي الشاب الجميل الذي يحبك ويهواكِ.
قالت: دعينا من الحب والغرام وحدثيني عن الانتقام.
قالت: سبحان الله أجيبي على سؤالي. هل تعرفين هذا الشاب فإنهُ مغرم بك مفتون بسواد عينيك.
قالت: نعم أعرفهُ وما تفيدني معرفتهُ. بالله عليك لا تذكري الغرام الآن. إني لا أشعر بعاطفة الحب ولا يهمني أحبني الناس أو أبغضوني.
فابتسمت العجوز ابتسامة الاستخفاف وقالت: ياللعجب ما أكثر لجاجتك.. قلتِ إنكِ تعرفين سعيداً فهل تحبينهُ.
فأجابت على الفور لا لا.. لا أحبهُ ولا أحب سواه.. إن قلبي لا يشتغل اليوم إلاَّ بالبغض. إني أبغض بعض الناس ولا أحب أحداً.
قالت: ولكن إذا كان لابد من الانتقام فيجب أن تحبي سعيداً.
قالت: كيف أحبهُ وقلبي لم يبق فيهِ مكان لغير البغض والحقد إني حاقدة ناقمة.
قالت: أنا أعلم ذلك ولكن أحبي سعيداً ولو مؤقتاً وهو ينتقم لك.
فبغتت قطام ونظرت إلى العجوز وجعلت تتفرس في سحنتها لتتحقق أنها تتكلم الجد فلما آنست الجد في لهجتها قالت: وهل تقولين حقَّاً هل يقدر هذا الرجل على ركوب هذا المركب الخشن..
قالت: إني أجعله يركبهُ فإذا لم يكن أهلاً لهُ فليس أهلاً لحبك.. ما رأيك؟
فصمتت هنيهة ثم قالت. أَأُحبهُ. نعم أحبهُ ولو إلى أَجل قريب.. ولكني لا أظنهُ أهلاً لهذا العمل بل لا أحسبهُ يقدم عليهِ. ولكن قولي لي العلك تتكلمين من عند نفسك أم أنت على يقين مما تقولينهُ.
فاعتدلت تلك العجوز المحتالة في مجلسها ونظرت إلى قطام نظر الاهتمام وقالت: اعلمي يا حبيبتي أن سعيداً هذا قد علق بك وأحبك منذ أعوام ولكنهُ لم يكن يجسر على مخاطبة المرحوم والدك بشأنك لأن والدك كان يومئذ في جملة القائمين بنصرة علي. وسعيد كما تعلمين أمويّ أي أنهُ ممن نقموا على علي وقاموا للمطالبة بدم عثمان.
فكان يعلم أنهُ إذا طلبك من والدك يومئذ لا ينال غير الفشل. أما بعد أن خرج والدك رحمهُ الله من طاعة علي في جملة من خرج بعد التحكيم حدثتهُ نفسهُ أن يطلبك فخاطبني في شأنك مراراً. ولكن والدك كان مشغولاً بمحاربة علي وشيعتهِ فلم أتمكنْ من التوسط لهُ. فلما علم بمقتلهِ ومقتل أخيك وا أسفاهُ عليهما (وتنهدت وهي تتظاهر بمسح دموعها) عاد إلى مخاطبتي في ذلك. وقد كنت أدافعهُ لعلمي بحزنك الشديد وهو مع ذلك مازال يتردد عليَّ ويستنهضني ويبذل كل مرتخص وغال في سبيل التمتع بهذا الوجه الجميل. فجاءَني اليوم وأعاد الكرة وبالغ في التذلل والاستعطاف فلمّحت لهُ أنهُ إذا أصرَّ على نيلك لابد لهُ من الانتقام لوالدك. فآنستُ منهُ ارتياحاً فأطلت الكلام معهُ وريحان في انتظاري خارجاً وهذا هو سبب تغيبي عنك فما قولك؟
فلما سمعت قطام كلامها استبشرت بنيل مرامها فقالت: «وهل تظنين أنهُ يعدني وعداً شافياً بالانتقام.. هل يتعهد لي بقتل علي بنْ أبي طالب. إني لا أقبل بأقل من ذلك.»
قالت: «أظنهُ يقبل ومع ذلك فإني استقدمهُ إليك ونظراً لما أعهده من مهارتك في أساليب السياسة لا أشك في أنهُ يتعهد لك بكل ما تريدينهُ وخصوصاً إذا أظهرت لهُ ميلاً وقلت لهُ إنك تحبينهُ وتفننت في طرق الدلال والتمنع واشترطتِ عليهِ أنكِ لا تتزوجين إلا بعد قتل عليّ. فإذا عاهدك صبرتِ حتى يقتلهُ فإذا لم يفعل وأصاب حتفهُ كان دمهُ على رأسهِ والسلام … ايه؟»
فأشرق وجهُ قطام وأحسَّت بارتياح إلى هذا الرأي وقالت «لا ريب عندي إني أحملهُ على التعهد … فاستقدميهِ لنرى ما يكون. ولكن قولي لهُ إني لم أقبل بعد وبالغي بتمنعي وإِبائي وأنا أتمم الحيلة».
فضحكت العجوز ضحكة طويلة وقالت «سامحك الله يا قطام ألا تزالين تحسبينني فتاة مثلك وهل تجهلين أين قضيت هذه الشيبة.. ألا تعلمين أني قضيت عمري في مثل هذه الحوادث. فكم أزوجت من الرجال وكم أقنعت من النساء في الزواج بعد أن كان قبولهنّ ضرباً من المحال.. لا تخافي عليّ.. ولا أنا أخاف عليك» قالت ذلك ونادت ريحان فأسرع إليها. فقالت لهُ هل تعرف الشاب الذي كان عندي الليلة.
قال: نعم أعرفهُ.
قالت: سر إليهِ إنه لايزال في المنزل حيث رأَيتنا الليلة وقل لهُ إن خالتك لبابة تدعوك إليها.
قال: وإذا أبى الحضور ماذا أقول لهُ؟
قالت: لا أخالهُ إلاَّ سابقك في الطريق اذهب وادعهُ إلىّ حالاً.
قال: سمعاً وطاعة وخرج.