البغتة
وكان سعيد قد نزل في بيت الغفاري فسأل عن صاحبه فأخبره أهل المنزل أنه خرج من الظهر ولم يعد فلم يخطر له أنه في جملة المقبوض عليهم فالتمس الحجرة التي وضع فيها ثيابه وهمّ بالرقاد ولم يكد يلقي رأسه على الفراش حتى تراكمت عليه الهواجس فأخذ يفكر في عبد الله وماذا عسى أن يفعل لإنقاذه وخاف إذا أبطأ في المسير إلى الكوفة أن ينفذ ابن ملجم بغيته فيذهب سعيهم عبثاً.
وفيما هو في هذه الهواجس وقد طار نومه سمع لغطاً في الدار ولم تمض برهة حتى علت الضوضاء وضج الناس فوقف وتنصت فإذا برجال عمرو قد دخلوا المنزل وأوغلوا في النهب ومن تعرض لهم آذوه فأيقن أنهم آتون إلى حجرته وتحقق أنهم مؤذوه فتقلد حسامه والتفت يميناً وشمالاً لعله يجد مخرجاً ينجو به بنفسه فسمع صوتاً يناديه من وراء الحجرة فاستأنس بالصوت ثم عرف أنه صوت خولة ولم يكن له سبيل إلى مشاهدتها غير نافذة عالية لا يشرف منها إلا إذا صعد على مرقاة فاحتال في الصعود إليها وأطلّ وكان الظلام حالكاً ولكنه رأى شيخاً وسمع صوت خولة تقول له: «إن الشرطة سيفتكون بكل من في المنزل وإذا رأوك آذوك فإليك هذا الخمار والجلباب فالبسهما وافتح الباب واخرج فيظنوك امرأة فلا يتعرضون لك» فلم يصدق أنه سمع ذلك حتى مد يده وتناول الخمار والجلباب وتنكر بهما وتخمر وهو يرقص من الرعشة مخافة أن يسبق أجله فيدخل الشرطة قبل خروجه.
فلم يكن إلا كلمح البصر حتى لبس وتلثم بالخمار وفتح باب الغرفة وخرج بزي امرأة فرأى الضوضاء لاتزال مرتفعة والنهب جارياً فلم يتعرض له أحد فالتمس الشارع وراء البيت حيث كانت خولة واقفة وهو مع دهشته وبغتته لم يتمالك عن الإعجاب بشهامتها والإقرار بفضلها عليه. وفيما هو يفكر بها رآها تمشي أمامه فاقتفى خطواتها حتى وصلا إلى منفرد فوقفت وقالت له: «الحمد لله على سلامتك وسلامة الإمام علي» فلم يفهم مرادها فابتدرته قائلة: «لا تعجب لقولي فإن حياة الإمام علي تتوقف على حياتك إذ ليس هنا من يعلم الخطر الذي يتهدده سواك نعم إني أعرفه أيضاً ولكني لا أضمن اقتداري على الذهاب ولا آمن الاعتماد فيه على أحد».
فقال: «وأنا إنما أبغي البقاء حياً لأقوم بإنقاذ هذا الإمام من القتل والفضل بالحقيقة لك أنت فأخبريني كيف عرفت بالخطر المحدق بي حتى جئت بهذه الحيلة».
قالت: «علمت من والدي أن عمراً أمر بنهب منازل أولئك العلويين والقبض على من فيها من الرجال والمال وأخبرني أيضاً أن هذا الغفاري كان في جملة المقبوض عليهم وقد علمت أنك نازل في منزله فجئت إليك بهذه الحيلة فالحمد لله على سلامتك».
فشعر سعيد بفضل خولة وأحس بانعطاف نحوها ولكن حبه قطاماً مازال غالباً عليه قابضاً على قلبه لا يترك له سبيلاً إلى سواها.
وبعد التأمل برهة قال: «وما العمل الآن إني عازم على الكوفة عاجلاً ولكنني لا أدري ما ألم بعبد الله ولا ما يأول إليه حاله هل علمت شيئاً عنه؟»
فتشاغلت خولة عن الجواب بإصلاح ثوبها كأنها تحاول إخفاء ما تعلمه فظنها لم تسمع كلامه فأعاد السؤال. فقالت: «لا يعلم المستقبل إلا الله».
فلم يعجبه جوابها فقال: أفصحي عما تعلمينه يا خولة.
قالت اعلم أن عمراً أمر بتقل أولئك العلويين في فجر هذا الصباح ولكن من يدري النتيجة.
فاختلج قلب سعيد أيما اختلاج وشعر كأنك صببت عليه ماءً غالياً وقال: ماذا تقولين هل يقتلون عبد الله ما العمل؟ كيف يقتلونه؟
فقالت: «دع الأمر لله واعذرني إني لا أستطيع البقاء معك طويلاً لئلا ينتبه والدي لغيابي فلا أنجو من القتل. وأما أنت فحياتك في أشد الخطر فيجب عليك أن تخرج من الفسطاط حالاً».
فقطه كلامها وقال: «كيف أخرج وعبد الله سيقتل غداً إنه صديقي وابن عمي وأعز من أخي كيف العمل يا رباه».
فقالت له: لا خيرة في الواقع فإن شراً واحداً أهون من شرّين ومع ذلك إن الوقت ضيق لا مجال فيه للسعي أو البحث عن سبيل لإنقاذ حياة عبد الله إذا قدر الله قتله ونحن الآن في نحو منتصف الليل وسينفذ القتل عند الفجر.. قالت ذلك وسكتت هنيهة.
فابتدرها سعيد قائلاً يلوح لي أن أبوح لعمرو بعزم بعض الناس على قتله واحذره من الوقوع في الخطر ألا تظنينه يعفو عن قتل عبد الله مكافأة لهذا الجميل.
قالت: «ربما عفا ولكنه لدهائه وشدته يظن في قولك السوء فيقبض عليك ويؤجل قتل عبد الله حتى يأتي ١٧ رمضان فإذا لم يظهر صدق قولك قتلكما جميعاً. فهل أنت ضامن أن المؤَامر على قتل عمرو يأتي في الوقت المعين وخصوصاً إذا علم باطلاع عمرو عليه. فلا تكون النتيجة إلا أنك ألقيت بيديك إلى التهلكة. ولكني أرى أن تترك هذا الأمر إليّ لعلي أهتدي إلى وسيلة استغفل لها والدي فأذهب بنفسي إلى الإمام وأطلعه على هذا السر فإذا رأى أن يقبض عليّ فليفعل والمستقبل في يد الله. أما انت فسر حالاً إلى الكوفة قبل فوات الفرصة إن الوقت قصير.. ووقتي الآن أقصر منه. دعني أذهب إلى والدي قبل أن يعلم بغيابي فيعرقل مساعيّ ثم أرى ما يكون. وسر أنت إلى الدير الذي كنا فيه في أول هذا الليل وسآتيك بالخبر. وقبل أن تصل الدير انزع عنك النقاب والإزار وادخل بثوب الرجال ورئيس الدير يعرفك فلا يستغشك». قالت ذلك وانصرفت تلتمس منزلها وهو يود لو أنها بقيت.