الإغراق
وفيما هو يحدث نفسه ويمشي الهويناء على تلك الضفة سمع لغطاً وحركة عن بعد فأجفل وتقدم نحو الصوت وهو يحدق بنظره فعلم أنه بجانب فم الخليج عند اتصاله بالنيل ورأى في النيل سفناً كبيرة وسمع لغطاً عميقاً كأن لصوصاً يهمسون فيما بينهم يحاذرون أن يسمعهم أحد. وكان هو لا يزال بلباس النساء فخاف أن يراه أحد فيتحرش به فينكشف أمره فانزوى وراء جميزة كبيرة بقرب الشاطئ ثم خاف أن يدنو منه أحد فيراه. فتسلق فرعاً من فروعها واختبأ بين الأغصان والأوراق هو يحاذر أن يحف الورق. حتى إذا استكنّ على غصن غليظ جعل يتفرس بما يراه فإذا هناك بضعة وعشرون رجلاً يحيطون ببضعة عشر آخرين كأنهم أسرى مغلولون يسوقونهم إلى قارب كبير وسمع بعضهم يقول: «إلى أين أنتم ذاهبون بنا في هذا البحر ألعلكم تريدون إغراقنا» فشجبه أحدهم قائلاً: «وما علينا إذا أغرقناكم وأنتم عصبة شريرة تآمرتم على نصرة رجل قتل الخليفة عثمان».
فصاح آخر: «أهذه أعمال ابن العاص يقتل الرجال غيلة. أما كفاه أنه يلتمس الخلافة لصاحبه بالحيلة حتى يقتل نصراء الحق غرقاً. أما تخافون الله ألا تخافون يوم القيامة».
فصاح به آخر وقال: «لا تخف يا فلان إننا إنما أمرنا بنقلكم إلى جزيرة الروضة تبقون فيها أياماً». ثم علت الضوضاء فعلم سعيد أنهم أنصار عليّ الذين قبضوا عليهم تلك الليلة في عين شمس فتحقق أن عمراً أشار بقتلهم غرقاً في النيل فارتعدت أعضاؤه حتى كاد يقع من الجميزة وحدثته نفسه أن ينزل لنصرتهم. ولكن الخوف غلب عليه لعلمه أنه أعزل وإنهم جماعة كبيرة وكلهم مسلحون. فلبث برهة كأنها سنة وهو يرتجف من شدة التأثر وتنصت لعله يسمع صوت عبد الله أو يراه فلم يسمع شيئاً ولم يكن يطنع أن يرى أحداً لشدة الظلام ولا هو يأمن أن ينجيه من أيديهم لكثرتهم وانفراده.
ولم يكن إلا بضعة دقائق حتى أصبح الكل في القارب ثم أداروا الدفة وهو ينظر إليهم ولم يقلعوا حتى ندم على سكوته وودّ لو أنه جاهر بنفسه لعله يستطيع نجدة أولئك المظلومين أو يُقتل. ولكنه تذكر أن بقاءه حياً ضروري لإنقاذ الإمام علي فمكث برهة كأنه في حلم وهو يتردد بين الندم والأسف ويلتمس عذراً لسكوته حتى توارت السفينة عن بصره في لجج الظلام فأيقن أن عبد الله لا يلبث أن يبيت طعاماً للأسماك إذا كان بين أولئك. وهو لابد أن يكون بينهم أنهم عصبة واحدة نالوا جزاءً واحداً.