مهمة ريحان
أما ريحان فإن لبابة أدركته في الطريق قبل عثوره على عبد الرحمن فأمرته أن يسرع في ملاقاة سعيد خارج الكوفة وألقت إليه من أساليب المكر والدهاء ما يكفل نجاح مهمته. فسارا أولاً إلى ساحة كبيرة في وسط الكوفة تجتمع فيها الدواب من القوافل وغيرها. ولابد للقادم إلى تلك المدينة من المرور بها أو النزول فيها.
وقبل وصوله إليها سمع جعير الجمال وصهيل الخيل ولما وصل رأى الساحة غاصة بالدواب وبينها الناس في هرج بين راكب ونازل ورأى الأحمال ملقاة هنا وهناك فجعل يتفرس بالوجوه لعله يرى سعيداً أو أحداً من خدامه فلم ير أحداً. فجاء بيت سعيد فسأل عنه فعلم أنه لم يأت بعد. فخرج يلتمس الطريق خارج الكوفة وهو ينظر إلى لأفق لعله يرى هجاماً أو فارساً. فمشى ساعتين ولم ير أحداً فوصل إلى شجرة كبيرة يستظل بها المسافرون للراحة قبل دخولهم المدينة ولابد لمن كان قادماً من الشام أو مصر من المرور بها. فجلس هناك وعيناه شائعتان إلى عرض الأفق يفكر في حيلة تطلي على سعيد فيسبقيه هناك أو يسير به إلى بيت قطام. فغربت الشمس ولم يأت أحد وكان القمر بدراً فلم تكد تغرب الشمس حتى طلع البد وانعكست الأظلال من الشرق نحو الغرب. فاتكأ على حجر وعيناه تنظران إلى الأفق.
قضى ريحان هناك أوائل الليل وعيناه شاخصتان وقلبه يخفق وكلما رأى شبحاً ظنه سعيداً فاشتد به البرد وهو يكابر ويتجلد. وحدثته نفسه أن يرجع فخاف أن يأتي سعيد في أثناء غيابه فيذهب سعيه هباءً منثوراً فالتف بثوبه. وبعد نصف الليل غلبه النعاس وهو يتجلد ولكنه لم يقو على سلطان النوم فأغمضت عيناه على أنه لم ينم طويلاً فاستيقظ مبغوتاً فأسف لما تولاه من الرقاد فنهض وهو يخاف أن يكون سعيد قد مر ولم يره. فوقف برهة يفكر في ماذا يعمل فصبر نفسه إلى الصباح فلم يأت أحد فخيل له أن سعيداً مر في أثناء نومه فعاد إلى الكوفة بأسرع من لمح البصر فبحث في ساحتها وسار إلى بيت سعيد فتحقق أنه لم يأت بعد فرجع إلى الشجرة وقضى معظم النهار تحتها أو حولها كأنه على جمر الغضا. وهو مع ذلك صابر لا يتذمر ولا يتضجر حتى غابت الشمس وطلع القمر. فقال في نفسه لم يبق إلا هذه الليلة فإذا لم يصل الرجل لم يبق ثمت حاجة إلى بقائي إذ يكون قد نفذ السهم وقتل عليّ. فازداد اضطرابه وتمنى أن لا يأتي سعيد فيتخلص هو من تدبير الحيل في أخذه إلى قطام وهو مع ذلك لا يرجو ذهابه معه لقرب ميعاد القتل.
ولم يدن العشاء حتى رأى جملين قادمين عن بعد وعليهما راكبان فاختلج قلبه واصطكت ركبتاه وزاده البرد ارتعاشاً. فلما اقتبربا وقف وتقدم نحوهما فإذا هما سعيد وبلال عبد خولة وكانا ملثمين فعرف سعيداً من قيافته وأما بلال فلم يعرفه.