انقشاع الغشاوة
مضى ريحان وهما ينظران إليه لا يفوه أحدهما بكلمة. فلما توارى قال سعيد «ما الذي أراه يا بلال إني أحسب نفسي في حلم؟ ما الذي تقوله عن هذا العبد هل أنت متحقق أنك رأيته في الفسطاط؟»
قال «نعم يا مولاي إني شديد الوثوق بذلك وقد زادني وثوقاً تناقض أقواله وتستره بعد ما اقترحته عليه».
قال «فلو كان قدم الفسطاط ما الذي يدعوه إلى التستر».
قال «يدعوه إلى التستر ما ارتكبه من الخيانة هناك. آه من هذا النذل يا ليتني قبضت عليه وأهرقت دمه قبل فراره من بين يدي. إنه وشى بكما لعمرو بن العاص».
فبغت سعيد وبدأت الغشاوة تنحسر عن بصيرته وتذكر ما قصته خولة عليه من حديث عبدها مع عبد آخر وشى بهما إلى ابن العاص. وإنه استغرب يومئذ أن يتصل خبرهما إلى الفسطاط وهما إنما قدما إليها سراً لا يعلم بهما أحد غير قطام ولبابة وهذا العبد. فانجلت لديه الواقعة وخطر له أن ريحان لا يسير إلى الفسطاط إلا بإيعاز سيدته وتذكر ما كان يؤانسه في ابن عمه عبد الله من الشك في قول قطام فندم على استسلامه لها وعض على سبابته وظل واقفاً لا يبدي حراكاً وبلال واقف بين يديه صامتاً. ثم قال سعيد آه يا بلال نورك بخولة ونورك بلبن رضعته إنها والله كانت ملاكاً سماوياً بعثه الله لكشف تلك الخديعة. ولكن يا ويلاه قد نفدت حيلة قطام على عبد الله فمات غريقاً …. ولكنها لن تنفد على الإمام علي فأحمد الله على انكشاف أمرها قبل انقضاء أجل المؤامرة.
ثم صمت وتذكر حبه قطاماً وما بذله لها من الإخلاص وما أجرته عليه من الحيل فعظم الأمر لديه وأمست عواطفه تتراوح بين ما انغرس في قلبه من الحب وما انكشف له من الخديعة فلم يتمالك عن البكاء. ولكنه خجل أن يذرف الدمع بين يدي بلال فأشار إليه أن يهيئ الجمال وحول وجهه إلى الخلاء ومشى وقد أطلق لنفسه عنان البكاء وهاج به الأسف لما أصاب ابن عمه عبد الله من البلاء بسببه فجعل يندبه ويندب سوء حظه ويقول: «تباً لك يا قطام. أصحيح أنك أنفذت عبدك للوشاية بنا إلى ابن العاص ليقتلنا …. أين عهودك وأين وعودك أين ما سمعته منك من الرجوع عن قتل الإمام علي … وا أسفاه عليك يا أخي وحبيبي عبد الله إنك ذهبت ضحية جهالتي ودهاء هذه المرأة.. آه يا قطام …. هل يوجد في الدنيا أناس قساة القلوب إلى هذا الحد (قتل الإنسان ما أكفره) أتسمحين بقتل محب استهلك في سبيل هواك وتقتلين بريئاً حملته غيرته على السعي في إنقاذ أمير المؤمنين …. وتسمحين مع ذلك بقتل أمير المؤمنين وأنت تنظرين … ….
«آه لا يسمح لي الوقت أن أسير إليك فانتقم منك قبل الذهاب إلى الإمام ….»
ثم وقف بغتة وانتبه لنفسه كأنه أفاق من رقاد ونظر على ما حوله فإذا هو في ليلة مقمرة صفا هواؤها ورق نسيمها فجعل يراجع ما مر به من الأحوال والأهوال وتذكر حبه قطاماً فغلب عليه حسن الظن بها فقال في نفسه «ولعل قطاماً بريئة وربما كان ريحان صادقاً وبلال مخطئاً» فلما تصور ذلك انبسطت نفسه والمحب الغيور كثير الظنون إلا في ما يأول إلى الإضرار في حبيبه. على أنه ما لبث أن تدبر القرائن والحوادث حتى رجح التهمة.
وفيما هو يناجي نفسه التفت فرأى بلالاً قد أعد الجملين وهم بالقدوم إليه فمسح دموعه وتحول نحوه وهو يقول في نفسه «لقد نفدت حيلتك في أخي عبد الله ولكنها لن تنفد في الإمام علي. ها أنني سائر الساعة إلى بيته وسأستعين به على قتلك وقتل تلك العجوز المحتالة وذلك العبد الشرير ….»
قال ذلك وركب جمله وركب بلال في أثره وسارا يلتمسان منزل الإمام علي.