منزل الإمام علي
وكانت إذا دخلت مجلس الإمام في تلك الأثناء رأيت رؤساء القبائل يترددون عليه ولا حديث لهم إلا ما كان من اجتماع كلمتهم وما يتوقعونه من النصر وما يرجونه من إحقاق الحق وكبح جماح الطامحين للخلافة من غير أهل البيت.
ذلك كان شأن الكوفة في ذلك الشهر المبارك أما علي فلم يكن يشغله عن فروض الصوم والصلاة شاغل فإذا دبت الساعة وأذن المؤذنون تكاثف الناس في صحن المسجد لسماع كلامه بما فطر عليه من البلاغة وشدة الغيرة على الإسلام والمسلمين.
فإذا وقف على المنبر رأيت الناس سكوتاً كأن على رؤوسهم الطير إعجاباً بما يسمعونه من درر ألفاظه وبديع حكمه وبليغ آياته وهم يعجبون لما قام في أنفس المعارضين ممن تخلفوا عن بيعته وخصوصاً الخوارج الذين اختلقوا لمعاداته أسباباً ما أنزل الله بها من سلطان.
فإذا فرغ من صلاة الغروب تحول إلى داره ومعه جماعة من الأمراء يتقدمهم أولاده وسائر أهله فيجلسون إلى الأسمطة للإفطار والقراء يتلون القرآن في جوانب الدار والكل يسبحون ويهللون حتى يخيل لك أنهم في موقف يتوقعون فيه الحساب.
وما فيهم من يخاف عقاباً لما يعتقدونه من صدق دعوتهم وقيامهم بالحق المبين.
وكان الإمام إذا فرغ الناس من الإفطار وجلسوا للأحاديث رأيته أقلهم كلاماً وأقصرهم عن التهديد وربما مكث ساعة أو بضع ساعات لا ينبس ببنت شفة كأنه يفكر في أمر ذي بال وربما كان تفكيره في ما يخشاه من سفك الدماء إذا حمل برجاله على الشام ونفوس الناس وديعة عنده يضن بها أن تذهب ضياعاً ولا يضن بها أصحابها في سبيل نصرته.