فخ جديد
أما سعيد وبلال فإنهما دخلا الكوفة وأسرعا يلتمسان دار الإمام علي وكان القمر بدراً (أو حوالي البدر) وقد تكبد السماء فأرسل أشعته على أمسية الكوفة وقد انقشعت الغيوم عن السماء على غير المعتاد في ذلك الفصل. فلما دخلا الكوفة رأياها ساكنة هادئة لانقضاء ميقات السهر. قد نام الناس وهو يتوقعون آذان السحر لينهضوا للسحور.
سار سعيد وهو يستحث جمله وقلبه يرقص طرباً لما يتوقعه من نجاح مهمته وقد شكر الله لإطلاعه على حيلة قطام وفوات الوقت. فلما دنا من المسجد ترجل وقال لبلال خذ الجمل وسر به إلى ساحة الكوفة وامكث حتى آتيك.
فلم يسع بلالاً غير الطاعة فتحول نحو الساحة. ومشى سعيد على قدميه وركبتاه تصطكان من شدة الاضطراب. وما صدق أنه أقبل على دار الإمام ولكنه رأى السكون سائداً عليها. فوقف هنيهة يفكر في السبيل الذي يدخل به الدار وأهلها نيام فلبث برهة يتردد وهو يخاف أن يستغشه أحد لقدومه في ذلك الوقت وهو لم يدخل تلك الدار من قبل ولا لقي الإمام علياً لقاء أهل الولاء. ولكنه لم ير بداً من الإقدام فمشى بخطوات المتردد حتى دنا من باب الدار فرأى شيخاً جالساً لم يعرفه ولكنه سر به لعلمه أنه لا يخلو أن يكون من بعض رجال علي فيساعده في مهمته. على أنه لم يكد يقبل عليه حتى وقف ذلك الشيخ بغتة وتقدم نحوه وهو يقول «من القادم».
فقال سعيد وهو يتلجلج بكلامه «إني رسول إلى الإمام علي. ومن أنت؟»
قال «إني قنبر حاجب الإمام علي ومن أنت».
قال «إني سعيد الأموي أريد مقابلة الإمام علي».
فصاح قنبر قائلاً «أأنت سعيد عالى معي..».
فسر سعيد لسرعة الإجابة ومشى في اثر قنبر حتى دخلا باب الدار وتحولا إلى حجرة فيها مصباح فدخل قنبر أولاً وأيقظ اثنين كانا نائمين هناك وسعيد يتبعه بسذاجة ولم يكد يدخل الحجرة حتى رأى الرجلين قد أطبقا عليه وقيدا يديه ورجليه وهو واقف لا يبدي حراكاً من شدة البغتة فلما رآهما يغلانه وقنبر واقف وقد تغيرت سحنته قال له «ما الذي تفعله ما هذه الوقاحة أين الإمام علي».
قال «لقد كذب فألك أيها الوغد اللئيم إنك لن ترى علياً حتى ترى الموت قبله».
فبغت سعيد وهو لا يعلم سبباً لذلك العمل فقال «ما بالكم تستغشونني وقد جئتكم في مهمة أنقذ بها الإمام علي من القتل».
قال «اخسأ ولا تطل الكلام إنك أموي وتطلب أن ترى الإمام لقتله أتظن قتله أمراً هيناً».
فقال «وكيف أريد قتله وأنا إنما جئت لإنقاذه من القتل».
فأمسكه قنبر بيده ويداه ترتعدان من شدة التأثر وقال له «أتظن حيلتك تنطلي علينا؟ أما كفى بني أمية ما فعلوه حتى جئتم تقتلون الإمام في منزله».
فبهت سعيد وقد جمد الدم في عروقه وقال «ما بالكم تسيئون بي الظن وأنتم لم تروا مني خيراً ولا شراً ألا تسمعون قولي ثم ترون رأيكم».
فقال قنبر «وما الذي نسمعه من قولك وأنت أموي وقد تعهدت بقتل الإمام علي مهراً لفتاة خطبتها من أهلها على هذا الشرط».
فانذهل سعيد وأراد أن يدافع عن نفسه فرأى قنبر يستخرج من جيبه رقاً فلما استخرجه دفعه إلى سعيد وجذبه بيده إلى المصباح وهو يقول له «اقرأ.. أليس هذا خطك؟»
فلما وقع نظر سعيد على الرق علم أنه الصك الذي كتبه لقطام يوم خطبها فأيقن أن قطاماً هي التي أرسلت هذا الرق إلى دار الإمام لتوقع به. ورآها لفرط حيلتها قد محت اسمها عنه ووقعت اسم فتاة أخرى فصمت ولم يجب.
فاتخذ قنبر من سكوته حجة عليه فصاح فيه «أجب قل.. أليس هذا خطك؟»
فارتبك سعيد في أمره ولكنه مازال يرجو التخلص بما يحمله من النبأ الأكيد عن مكيدة ابن ملجم فقال له «هب أنه خطي ولكنني جئتكم بخبر المكيدة التي كادها بعض الناس على الإمام ألا تمهلوني ريثما أخبركم».
فلم يصبر قنبر على سماع كلامه وصاح فيه قائلاً «وأي مكيدة أعظم من أن تتعهد بقتل الإمام … امكث هنا الليلة وغداً لناظره قريب».
قال ذلك وخرج وأغلق الباب عليه.