الوصية
وكان سعيد لا يزال في تلك الحجرة وقد أقفلوها عليه ولم يدر ما أصاب الإمام علياً. فلما أخرجه قنبر على تلك الصورة ورأى الجمع متكاثفاً هناك ظنه يريد به سوءاً. فقال أروني الإمام علياً فأطلعه على دسيسة دبرها له أهل البغي ولا تظنوا بي سوءاً.
فعلا صوت قنبر بالبكاء وقال «لقد نفذ السهم يا سعيد إنهم فتكوا بأمير المؤمنين».
فصاح سعيد «ومن فتك به».
قال «إن ابن ملجم ضربه ضربة قاتلة قتله الله».
فصاح سعيد «ويلاه واحسرتاه كيف يقتله وقد قطعت البراري والقفار سعياً في تلافي ذلك المصاب.. ألم أقل لك ذلك يا قنبر».
قال «إنك لم تفصح المقال وقد نفذ السهم وجرح الإمام جرحاً لا أظنه ينجو منه ولو أصغيت لمقالك لنجا أمير المؤمنين ولكن وقع القضاء ولا مرد لقضاء الله».
ولم يتم قنبر كلامه حتى بكى سعيد وبكى الناس وعلا الصياح وهم مبهوتون ينظرون إلى قنبر يتوقعون منه تفصيلاً.
أما هو فاشتغل بحل قيود سعيد بيده وهو يقول «قاتل الله تلك العجوز المحتالة إنها أغرتي بك وقد نجحت حيلتها».
فهم سعيد أن يقص عليهم حديثه على أثر ما رآه من رغبتهم في ذلك وإذا ببعض الناس يقول «إن الإمام قد شعر بالراحة وهو يخاطب ابنيه الحسن والحسين».
فتحول الجمع إلى غرفته كالسيل واغتنم بلال تلك الفرصة فدنا من سعيد كأنه يستفهمه عن سبب ذلك الفشل. فقص عليه الخبر باختصار ووعده بإتمام الحديث في فرصة أخرى. وسار مع الجمع إلى غرفة الإمام فلم يستطع الدخول إليها لتزاحم الأقدام. فأطل من نافذة فرأى علياً متوسداً فراشه وهو معصوب الرأس بمنديل يغطي الجرح وكانوا قد غسلوا الدم عن وجهه ولكن آثاره مازالت ظاهرة على بعض لحيته.
فتذكر سعيد جده أبا رحاب وما أوصاه به فلم يتمالك عن البكاء على أنه ما لبث أن سمع علياً يتكلم فوجه إليه انتباهه فرآه يخاطب ولديه الحسن والحسين وهما جاثيان عند رأسه وإمارات الكآبة والحزن ظاهرة عليهما وهما يتجلدان تجلد الرجال وقد أصاغا بسمعهما وحولا أعينهما إلى وجه والدهما الجريح والناس سكوت وكلهم آذان يسمعون ما يتلوه الإمام من الآيات البينات وهي آخر خطبة ألقاها. فإذا هو يقول «أوصيكما بتقوى الله ولا تبغيا الدنيا وإن بغتكما ولا تبكيا على شيء زوى عنكما وقولا الحق وارحما اليتيم وأعينا الضائع واصنعا للأخرق وكونا للظالم خصيماً وللمظلوم ناصراً واعملا بما في كتاب الله ولا تأخذكما في الله لومة لائم».
ثم نظر إلى محمد بن الحنفية فقال «هل حفظت ما أوصيت به أخويك».
قال «نعم».