قلب خولة
فتذكر سعيد حديث خولة وتمثلت له صورتها كالملاك وتذكر ما آنسه فيها من الحمية والأنفة والشهامة وما شعر به نحوها من الميل يوم لقيها في الفسطاط وهو لا يزال مخدوعاً بمواعيد قطام ومشغولاً بأمر الإمام علي فلم يترك لقلبه يومئذ مجالاً للحب فلما سمع ذكرها الآن تجددت ذكراها في ذهنه فمال لسماع أخبارها فظل على تجاهله فقال «أو هل أنت متحقق أنها كانت مصممة على رفضه ولو أغضبت والدها».
قال «نعم إني واثق بما أقول وقد لحظت شيئاً آخر ….» وسكت وهو يبتسم.
قال «وما هو».
قال «ألم تلحظه أنت».
قال «كلا وما هو. قل».
قال «لحظت أنك وقعت من نفسها موقعاً عظيماً. ولحظت أيضاً أنك لم تجهل ذلك.»
قال «كيف عرفت أني لم أكن أجهله».
قال «عرفته مما رأيت من خروجها إليك غير مرة بالليل التماساً لنجاتك وهي تستجهلني ولا تنتبه لملاحظتي. ولكنك كنت منشغلاً يومئذ بلهفتك على إنقاذ الإمام علي من مخالب الموت ….»
فعجب سعيد لما ظهر له من اطلاع بلال على سره وتذكر أنه شعر بشيء منه يوم كان في الفسطاط وأن انشغاله بلهفته على الإمام وخوفه عليه مع تعلقه بقطام وعهودها حال بينه وبين تمكين علائق المودة مع خولة. فلما سمع ما سمعه من بلال ساعتئذ أحب أن يستطلع جلية الخبر فقال له «افصح عما في نفسك إني لم أفهم مرادك».
فقال بلال «إن مرادي واضح مما ذكرته لك وأقول باختصار إن سيدتي أسرت إلي يوم أمرتني أن أسير في ركابك إننا إذا أتممنا مهمتنا بكشف دسيسة ابن ملجم وأنقذنا الإمام علياً أن أطلعك على رغبتها في عودك إلى الفسطاط لأنها تكون قد نجت من خطبة ابن ملجم وتكون أنت قد فرغت من مهمتك ولا أدري ما تنويه هي في رجوعك؟»
ففهم سعيد ما وراء ذلك فقال له «أما رجوعي إلى الفسطاط فلا يخلو من الخطر عليّ لأني إنما جئت منها فراراً من القتل. فإذا عدت إنما أعرض نفسي لما هو شر من القتل وابن العاص لا يعفو عني على أني أكره أن أرى الفسطاط بعد أن فقدت فيها ابن عمي رحمه الله …» وسكت هنيهة وتنهد ثم قال «هل أنت واثق بميلها إليّ فإني والحق يقال قد آنست في خولة من الحمية وعزة النفس مع الاستهلاك في نصرة الإمام ما جعل لها في نفسي مقاماً رفيعاً. ولا أكتمك ما خالج ضميري يومئذ من الميل إليها ولكني كنت عالق القلب بقطام أخزاها الله إنها خدعتني …».
فقطع بلال الكلام عليه قائلاً «هذه الخائنة يا مولاي إني والله أكره أن أسمع ذكرها لأني أشعر بقصوري وجهلي اللذين سببا نجاتها وهي والحق يقال أصل هذا الشر العظيم … ولكنها انتقمت لوالدها وأخيها فارتكبت أعظم إثم حدث في الإسلام فقتلت ابن عم الرسول (ﷺ) ولكني سوف أذيقها حتفها وأسفك دمها ولو كلفني ذلك بذل النفس» قال ذلك وهو يحرق أسنانه حقاً وأسفاً.
فقال سعيد «وما ظنك بها الآن. هل هي باقية في الكوفة؟»
قال «لا أظنها تبقى هنا بعد ما ارتكبته وقد فضح أمرها وعلم الخاص والعام أنها شريكة في القتل».
قال «وإلى أين تظنها خرجت».
قال «لا أدري وسأبحث عن ذلك في صباح الغد أما الآن فلنعد إلى ما كنا فيه فإنك إذا لم ترجع معي إلى الفسطاط احسبني مقصراً بالواجب عليّ. وخولة يا مولاي يندر مثالها بين البنات جمالاً وتعقلاً وإنفة ولولا والدها وتشيعه لمعاوية لأتت بما لم يأته أعاظم الرجال. ولكنه كثير التشيع لابن أبي سفيان كما قد علمت وهو وسيدتي خولة يحسبانني ساذجاً لا أفهم الأمور ولذلك فكثيراً ما كانا يختلفان أمامي ويختصمان على أمور استدل منها على ذلك».