خولة في الفسطاط
فلنترك سعيداً وبلالاً في حالهما ولنعد إلى خولة في الفسطاط. فقد تركناها عائد في ذلك الليل إلى منزلها وكان والدها كما علمت قد حبسها في ذلك البيت على طريق عين شمس. فلما أخرجها سعيد منه كما رأيت وسارا إلى الدير ثم خرجت هي وحدها لم تر خيراً من أن تتظاهر بالبكاء والخوف. فهرعت إلى منزل والدها باكية وكان هو لا يزال غائباً لانشغاله بمقابلة عمرو بن العاص بشأن الذين قبض عليهم في ذلك الدهليز فلما فرغ من أمرهم وحرض ابن العاص على إغراقهم سار إلى محبس ابنته فرأى الباب مفتوحاً وليس هناك أحد. فاستغرب الأمر وعاد تواً إلى منزله فرأى خولة جالسة في غرفتها تبكي. فتجاهل سبب بكائها وقال لها «ما بالك يا خولة».
قالت «كيف تتركني وحدي في ذلك البيت ألم تخف عليّ أبناء السبيل».
قال «ألم تري أني أقفلت الباب وأوصدته خوفاً عليك من ذلك».
قالت «كيف تفعل بي هذا الفعل ألعلّي عاصية أمرك»واستغرقت في البكاء.
فتحركت فيه عاطفة الأبوة وظنها تقول ذلك في سذاجة فقال لها «وكيف خرجت».
قالت «لما رأيت نفسي حبيسة هناك خفت على حياتي فجعلت أناديك وأستغيث بك ثم سمعت قرقعة وضجيجاً ووقع حوافر كثيرة فازداد خوفي فصحت واستجرت فقيض الله لي بعض الناس فتح الباب بالعنف فخرجت وهرولت إلى البيت وأنا ارتعد من شدة الإضطراب».
فطيب خاطرها ولامها على خوفها ولكنه سر لظنه بانطلاء حيلته عليها. ومازال يهون عليها حتى تظاهرت بالرضاء فتركها وخرج وهو يظنها عازمة على الرقاد ثم سمعت خولة لغط الناس في المدينة فانتبهت إلى الجند لا يلبثون أن يبتغوا بيت الغفاري فإذا رأوا سعيداً هناك قبضوا عليه فخرجت لإنقاذه كما تقدم. وقبل خروجها أوصت عبدها أن يوصد الباب وإذا سأل والدها عنها أن يقول له إنها نامت وأوصدت الباب وراءها لشدة ما اعتراها من الخوف في ذلك المساء. فبات والدها تلك الليلة وهو يحسبها نائمة أما هي فبعد إنقاذها سعيداً عادت إلى غرفتها وهي لا تزال مضطربة فلم تستطع رقاداً وجعلت تفكر في طريقة تنقذ بها عبد الله ولم تمكث قليلاً حتى سمعت لغطاً في دار والدها وفهمت من خلال اللغط أن عمراً عول على إغراق أسراه تلك الليلة في النيل وسمعت والدها يضحك سروراً بذلك القرار. فأسفت أسفاً شديداً ولبثت برهة تفكر في ماذا تعمل حتى حدثتها نفسها لشدة التأثر أن تخرج في أثر الخارجين لعلها تستطع إنقاذ عبد الله. فاستغفلت والدها وكان قد ذهب إلى فراشه وخرجت وأوصدت الباب وراءها كالمرة الأولى وبلال نائم أمام عتبته وسارت تلتمس ضفة النيل حيث ظنت أنهم ساقوهم وهي عزلاء لا سلاح معها ولكنها إنما اندفعت إلى الخروج بحميتها. فالتقت هناك بسعيد ودار ما دار بينها وبينه ووعدته بإرسال عبدها ليصحبه إلى الكوفة كما تقدم. ثم عادت وحدها.
فلما أشرفت على المنزل رأته هادئاً وأهله نيام فانسلت إلى الدار فرأت عبدها بلالاً نائماً فأيقظته فهب من رقاده مذعوراً وكانت تعلم باستهلاكه في مرضاتها فدعته إلى غرفتها فتبعها فلما خلت به قالت «أتدري لماذا دعوتك».
قال «كلا يا مولاتي ولكنني رهين أشارتك».
قالت «أتطيعني يا بلال».
قال «كيف لا وأنا عبدك ورهين إشارتك».
قالت «أعلم ذلك ولكنني أريد أن أعهد إليك أمراً خطيراً فهل أنت مستعد للقيام به حتى الموت».
قال «إن الموت هين في سبيل مرضاتك. قولي يا سيدتي مري بما تشائين فقد قضيت عمري في خدمتك وأنا أتوقع مهمة ترضيك ولو إلى القتل».
قالت «أسمعت ما حدث اليوم في عين شمس وما فعل ابن العاص بالمجتمعين هناك».
قال «نعم وقد ارتكب أميرنا فيه أمراً عظيماً وقتل كثيرين».
قال «أما سرك ما فعله ابن العاص بأولئك العلويين».
قال «إذا كان ذلك سرك فإنه يسرني».
قالت «وما ظنك بي».
قال «لا أظنك راضية عن ذلك لعلمي أنك على غير دعوة الأمويين وإن يكن سيدي مستهلكاً في سبيل التشيع لهم».
قالت «وكيف عرفت ذلك».
قال «أنت تحسبينني ساذجاً وقد قضيت في خدمتك أعواماً طوالاً واطلعت على مكنونات قلبك وأنت لا تعلمين. وأما الآن وقد دفعتني إلى التصريح فأقول لك إني أعلم غرضك ولا يفتني شيء مما تقاسينه في سبيل الدفاع عن الإمام علي.. وخصوصاً في الأمس وأنت لا تعلمين إلا أني أحرس هذا الباب الموصد وأكتم خروجك منه عن والدك».
فاستغربت خولة قوله ولكنها سرت بما سمعته منه وقالت «وما مرادك بما حدث بالأمس».
قال «أتظنين أني غافل عما قاسيته في سبيل إنقاذ ذلك الشاب الغريب الليلة وقد كان في جملة من خيف عليهم الوقوع في شراك ابن العاص فأنقذته بغيرتك».
فتحققت أنه كان يراقب حركاتها وسكناتها. فتهلل قلبها سروراً فقالت «أما والحال على ما أرى فأخبرك أن ذلك الشاب مسافر الآن إلى الكوفة وأريد منك أن تذهب إليه بالجملين إلى سفح المقطم فإذا التقيت به هناك سر في ركابه إلى الكوفة واحذر أن يدري بك أحد أو أن تذكر ذلك لأحد».
ولم تتم كلامها حتى تحول مسرعاً يهم بإعداد الجملين فاسترجعته وقالت «قف يا بلال بورك فيك واسمع كلمة أخرى أقولها لك».
فعاد وقال «لبيك يا مولاتي قولي ما تشائين».
قالت «إنك ذاهب مع هذا الشاب إلى الكوفة لإنقاذ الإمام علي من القتل وستعلم تفصيل ذلك منه. وأما الآن فيكفيني أن أوصيك به خيراً وإذا أنتما فرغتما من تلك المهمة أرجع به إلينا فإني أكره ابن ملجم الذي يريد والدي أن يجعله خطيباً لي … هل فهمت؟»
فضحك بلال وهز رأسه ولسان حاله يقول «فهمت».
فقالت «سر بحراسة الله وكنت أود أن أزيدك بياتاً ولكن الوقت ضيق فاذهب وعد سالماً بإذن الله واحذ أن تبوح لأحد بما سمعته أو رأيته».
فخرج وهو يلتفت إليها كأنه عاتب على ما ظهر من ضعف ثقتها بأمانته ولكنه كان يبتسم فرحاً بما كلفته به. فأعد الجملين وخرج إلى سفح المقطم وصحب سعيداً كما تقدم.