خولة ووالدها
أما خولة فلما تحققت انطلاء الحيلة على والدها عادت إلى هواجسها وتذكرت المهمة التي سار فيها سعيد وأخذت تفكر في أمره وهي خائفة أن يتأخر في الطريق عن الوقت المعين لقتل الإمام فيذهب سعيها هباءً منثوراً. ولكنها كانت مع ذلك مطمئنة الخاطر بنجاتها من ابن ملجم لعلمها أنه وإن فاز بقتل الإمام علي فلا ينجو من سيوف أشياعه وهم كثار في الكوفة.
على أنها باتت منشغلة الخاطر على سعيد بعد أن فرغت من تدبير الحيل في إرساله لأنها لم تتحقق وقوعها من نفسه مثل وقوعه من نفسها وودت لو يسرع عبدها بلال بالرجوع لترى ما تم. ولكنها حسبت الأيام الباقية ريثما يرجع فرأت الأجل لا يزال بعيداً فصبرت نفسها ولبثت تنتظر ما يأتي به القدر.
وبعد مضي أيام من ذلك جاء والدها ذات مساء بعد عودته من حانوته وعلى وجهه أمارات البشر فتوسمت في طلعته خبراً جديداً فمالت إلى استطلاع ما في خاطره لعلها تعلم منه شيئاً يهمها. فلما جلسا إلى المائدة احتالت في اجتذاب حديثه فذكرت له ما مر في تلك الأثناء من القبض على أولئك العلويين وتفننت في استرضائه فابتسم واللقمة ملء فيه وكأنه يريد أن يقص عليها قصة بعد أن يزدرد تلك اللقمة. فكفت هي عن الطعام ولم تستطع صبراً على سماع الحديث.
فلما ابتلع اللقمة تنحنح ومسح شاربه ولحيته والتفت إليها وقال وهو لا يزال يبتسم «لقد عودتني يا خولة أن أحاذر الكلام بين يديك في ما أخشى إفشاءه» فتظاهرت بالاستغراب وقالت «إني لأعجب يا أبتاه من سوء ظنك بي مع علمك إني فتاة محتجبة في هذا البيت لا أعرف من أهل الدنيا أحداً سواك فكيف تقول إنك تحاذر أن تذكر بين يدي ما تخاف إفشاءه. أي سر بحت به إليّ فأفشيته».
قالت ذلك وكادت تجهش بالبكاء.
فتأثر والدها من منظرها ولكنه عاد فابتسم وقال لها «لم أقل إنك تبوحين بالسر ولكنني …» وسكت.
فقالت «ولكن ماذا يا أبتاه إنك والله ظالمني بظنونك ويسوءني أن لا يكون لي نصيب من الثقة حتى ولا من والدي الذي لا أعرف أحداً سواه».
قال «لا أخفي عنك يا بنيتي أنني كنت ولا أزال أعتقد أنك ميالة إلى الأعداء …. و… … ….»
فابتدرته وهي تتظاهر بالبغتة والاستغراب وقالت «وأي أعداء تعني …. أعوذ بالله من هذه التهم … كيف تقول ذلك … … وتنحت عن المائدة وتظاهرت بالإعراض».
فقال «اعترف لك إني أراك ميالة إلى حزب العلويين وأنت تعلمين أن علياً حاربنا وقتل منا جماعة كبيرة في النهروان وغيرها.. ولا ألومك لانعطافك نحوه لأنني كنت أيضاً مثلك وقد كنت في جملة المتشيعين له. ولكنني أصبحت بعد واقعة صفين ناقماً عليه لما ارتكبه في مسألة الحكمين بحيث أخرج الخلافة من يده وجعل لمعاوية يداً دونه ….»