تمام الحيلة
فلما فرغ سعيد من كتابة الصك دفعهُ إلى قطام وقد ظهرت عليه ملامح الافتخار بأنهُ لم يكن جباناً كما ظنَّتهُ. ولكنهُ لم يكد يدفعهُ إليها حتى أحسَّ بالخطر الذي عرّض نفسهُ لهُ. على أنهُ لم يستجل ذلك الخطر جيداً لما حال بينهُ وبين عقلهِ من غياهب الوجد والهيام.
أما قطام فتناولت الرق وقرأتهُ بلا اكتراث ثم نظرت إلى سعيد باستغراب وقالت «يظهر إنك كتبت الصك حقيقة. أليس عاراً على قطام أن تأْخذ منك صكّاً على عهد عاهدتها عليهِ في مثل هذا الموقف كأَنك اتخذت كلامي مأخذ الجد وقد قلت لك الآن إني لا أبالي من يقتل علياً وإذا لم يقتلهُ أحد قتلتهُ أنا. أما وقد كتبتهُ بخط يدك وإني أحفظهُ عندي تذكاراً لهذه الليلة التي أعدُّها من ليالي العمر … وأرجو أن نجتمع قريباً وقد نلنا المرام» قالت ذلك وفي صوتها غنة الدلال.
فصدق سعيد كلامها واطمأن باله من قبيل الشرط الذي اشترطه على نفسهِ والصك الذي كتبهُ بيده ولكنهُ علم بأنهُ لا ينال قطاماً إلاَّ بعد قتل الإمام علي. فعاد الأمر إلى خطارتهِ فانقبضت نفسهُ وأحب الاختلاء فالتمس الخروج. فقالت لهُ قطام: «امكث عندنا … أو اذهب لعلك تهتدي إلى سبيل يقرَّب زمن اجتماعنا الدائم» قالت ذلك وابتسمت ورنت إليهِ كما يرنو الحبيب إذا التمسْ من محبهِ أمراً يخشى أن يكون بعيد المنال. فودعها سعيد وخرج فتبعتهُ لبابة فرأيا ريحاناً لا يزال ساهراً في الحديقة يطوف حول المنزل خوفاً من الرقباءِ والعيون.
ولما خرجت لبابة لسعيد قالت لهُ وهي تضحك «إني أهنئك برضاءِ هذه الغادة فقد نلتَ الليلة ما طالما تحسَّر عليهِ أهل الكوفة بل سائر أهل العراق. ومن الغريب أنها كانت مع فرط حزنها لا تستطيع النظر إليك إلاَّ وهي تبتسم … فما أجمل الحب إذا كان متبادلاً. وأما مسأَلة الصك فما هي من الأهمية في شيء. وهب أنك رأَيت في طريقك خطراً فهل ترضى قطام أن تعرض نفسك لهُ». فودعها ومشى وحدهُ وهو يتعثر بأذيالهِ. وكأنهُ غادر قلبهُ عند قطام فخلا بعقلهِ وعادت إليهِ هواجسهُ فتصور خطارة الأمر الذي عرَّض نفسهُ لهُ. ولما لم يبق لهُ حيلة في الرجوع عن عهده بعد كتابة الصك جعل ينتحل لنفسهِ أعذاراً تخفف قلقهُ وتحسَّن لهُ ارتكاب ذلك المنكر. فخيل لهُ إذا قتل عليّاً أنهُ ينتقم لسائر بني أمية ويفاخرهم جميعاً بما لم يستطعهُ أحد منهم. فينال حظوة في عيني معاوية فضلاً عن تمتعهِ بقطام. ولما تصور قربهُ منها اختلج قلبهُ في صدره وهان عليهِ كل عسير.
فمشى وهو في مثل هذه الخيالات الكاذبة حتى دخل الكوفة ومرّ بجامعها القائم في وسط الساحة الكبرى. وكان الجو هادئاً والقمر منيراً فرأى ما يحدق بمنزل الإمام علي من الأبنية والخيام بمن فيها من كبار بني هاشم وغيرهم من شيعتهِ. وهو يعرف منهم جماعة صناديد لا يهابون الموت. فما لبث أن تصور ذلك حتى خارت قواه وكبر عليهِ الأمر ولكنهُ ظل ماشياً يلتمس منزلهُ وهو يفكر في حيلة ينال بها بغيتهُ.