عبد الله في دار الأمير
أما عبد الله فإنه مكث في محبسه وقلبه واجف مما قد يطرأ من تغيير خطة المؤامر. وقد خطر له الاحتياط من ذلك فلما باح لعمرو بالسر اشترط عليه أن لا يطلع أحداً عليه لأنه إذا شاع وعلم المؤامر به ربما غير خطته فيقدم الميعاد أو يؤخره فيظهر ذلك من عبد الله مظهر الكذب. وهذا الذي دعا عمراً لكتمان أمر المؤامرة عن كل واحد حتى صاحب شرطته. وأما والد خولة فقد كان من أكثر الناس تقرباً من عمرو وأعظمهم غيرة عليه فكان عمرو يساره في مثل هذه الشؤون ولولا رغبته في معاتبته على خيانة صهره ابن ملجم ما كشف له الأمر.
فلما كان ليل ١٧ رمضان أخذ القلق من عبد الله مأخذاً عظيماً لعلمه أنه ليلته بين الحياة والموت. فأصبح ذلك اليوم وهو لا يزال محبوساً لا نافذة في محبسه يطل منها أو يسمع ما يجري على أنه سمع لغطاً لم يفهم منه شيئاً صريحاً فتربص حتى جاءه الخفير بالطعام على جاري العادة فاستفهمه فطمأنه باختصار فسر ولبث إلى مساء ذلك اليوم.
وبعض العشاء جاء بعض رجال عمرو إلى محبس عبد الله فتحه ودخل عليه فحل قيوده ودعاه إلى الأمير فمشى في أثره وقد انبسط وجهه لما كان من نجاته بعد أن كان في عداد الأموات. فقاده الرجل إلى قاعة في صدرها عمرو بن العاص على وسادة وفي يده درة (سوط) يلاعبها بين أصابعه وليس في القاعة أحد سواه. فلما أشرف عبد الله على القاعة نزع حذائه في الخارج ودخل تواً إلى مجلس الأمير وهم بتقبيل يده باحترام فأمسكه ابن العاص بيمينه وأجلسه إلى جانبه وهو يقول بصوت منخفض «لقد كانت نجاتنا على يدك فوجبت علينا كرامتك ولكن للأسف أن صاحب شرطتنا وقع في الشراك التي كانت منصوبة لنا ولو علمنا الساعة أو المكان المعينين لتلك الفعلة الشنعاء لاستطعنا تدراكها أو لو اطلعت خارجة على سر الأمر فربما كان نجا بنفسه ولكني لا أظنه كان يستطيع ذلك وهو لا يعلم الزمان والمكان المعنيين.
فقال عبد الله «اعلم يا مولاي أن كتمان هذا الأمر تتوقف عليه حياتي إذ لو شاع خبر اطلاعك على هذا السر لغير المؤامر خطته فربما أخر موعده أسبوعاً أو شهراً فكنت أنا المقتول بدلاً من خارجة لأنك تسيء الظن بي فتقتلني. ومع ذلك فهو القضاء يجري إلى حيث لا نعلم».
ولم يتم كلامه حتى دخل بعض الخدم يقول «إن في الباب أبا خولة».
فقال عمرو «أدخلوه».
فرجع الخادم ودخل أبو خولة وهو صاحبنا والد خولة ولم يكن هو من مصاف الأمراء ولا من القواد الأنداد حتى تكون له تلك المنزلة عند عمرو ولكنه نال تلك الحظوة خصوصاً بعد أن اطلع عمراً على عزم ابن ملجم قتل عليّ. ثم مازال يتردد على دار عمرو ويبذل ما في وسعه لخدمته فعده عمرو من أصحابه.
فلما دخل أبو خولة القاعة حيى وقبل أن يجلس قال له عمرو أغلق الباب ومر الخدم أننا لا نريد أحداً يدخل علينا. ففعل ودخل. فدعاه عمرو إلى جانبه وعرفه بعبد الله وأعجب أبو خولة بعبد الله لأنه كان شاباً جميلاً مع نباهة وذكاء وسر لما دبره عمرو من مصاهرته له. وأما عبد الله فكان لا يزال خالي الذهن من ذلك.
فلما جلس الثلاثة التفت عمرو إلى عبد الله وقال له «لقد عرفتك بصاحبنا أبي خولة ولم أتم لك المعرفة فأزيدك علماً أنه من أعز أصدقائي وقد كتمت أمر المؤامرة عن كل أحد سواه ولكنني اشترطت عليه شرطاً أظنه يعود عليك بالمنفعة وقد فعلته مكافأة لك على خدمتك لي».
فوقف عبد الله متأدباً وقال «يأذن لي مولاي بكلمة».
قال «قال».
قال «لا أرجو أن تحسب لي فضلاً بما بحت لك به فإنى والحق يقال إنما فعلته استبقاء لحياتي فلا تظنني أغش نفسي».