البشارة غير السارة
فلما انقضى العشاء ومضى بعده ساعتان قرع الباب وعلمت أنه قرع والدها فدق قلبها دقات متسارعة وعلت وجهها صفرة الوجل فظلت مستلقية على الوسادة في غرفتها ولم تمض برهة حتى فتح باب الدار. فتحول والدها تواً إلى غرفتها فقرعها فنهضت لتفتح له وركبتاها تصطكان من الاضطراب. فلما فتحت له الباب دخل والمصباح في يده فوضعه على مسرجة وجلس إليها وعلى محياه أمارات البشر والسرور وهو يحسب نفسه جاءها ببشرى عظيمة. فرآها مضطربة الحواس قلقة الخاطر مع أنها كانت تحاول التجلد ولكن القلق والاضطراب غلبا عليها فقال لها «ما بالك يا بنية ما الذي يزعجك».
قالت «لا يزعجني شيء ولكنني قلقت لغيابك وأنا وحدي في هذا البيت لا أرى فيه أحداً غير الخدم».
قال وهو يبتسم «لقد دنا الوقت الذي لا تكونين فيه وحدك».
فتجاهلت مراده وقالت «يظهر أنك علمت بما أقاسيه من الوحدة فعولت على أن لا تتركني وحدي».
فضحك لسذاجتها وقال لها «ليس هذا قصدي يا خولة ولكني أذكرك باقتراح الأمير الذي أطلعتك عليه منذ بضعة أيام فإنه قد تم اليوم بعد أن صدق قول عبد الله الأموي فجمعني عمرو به الليلة في داره فرأيته شاباً جميلاً عليه مهابة الأمراء وقد ترين الشجاعة والأنفة تتحليان في وجهه. ويكفي أن عمراً سحر به وبالغ في إطراءه أمامي. فهذا هو خطيبك ومتى كتب الكتاب طبعاً لا تكونين وحدك».
ولم يتم كلامه حتى صغ وجهها احمرار الخجل وظلت صامتة ثم أخذ العرق ينسكب عن جبينها كاللؤلؤ المنثور وهي مطرقة لا تفوه بكلمة.
ولم يكن سبب اضطرابها مجرد الخجل كما ظن والدها ولكنها أصبحت آلة تتقاذفها الهواجس حائرة بين أن تطيع عواطفها أو تطيع والدها وأميرها. ولو أنها لم تبعث إلى سعيد بخبر حبها له مع بلال لكانت المعضلة أقرب إلى الحل وإذا رفضت عبد الله رفضاً باتاً تغضب عمراً ووالدها. وهي مع ذلك لا تدري مصير سعيد ولا ما آلت إليه مهمته بعد خروجه من الفسطاط مع بلال ولم تر حلاً غير الاصطبار فصبرت حتى يعيد والدها السؤال فتستمهله.
أما هو فلما آنس فيها ذلك الاضطراب حمله محمل الخجل وهو عادي في الفتيات في مثل هذه الحال. فوضع يده على شعرها المسدول على كتفها وقال لها «لا تخجلي يا بنية إن والدك يخاطبك وليس أحد سواه وقد تم الأمر على يد الأمير وهو شرف كبير لنا كما تعلمين».
فأجابت وهي لا تزال تنظر إلى الأرض وقالت «وهل ضرب لذلك أجلاً».
قال «لقد ضرب أجلاً لذلك أسبوعاً».
قالت «فليكن ثلاثة أسابيع على ما أرى».
قال «ما الداعي إلى هذا التأجيل فإني أخاف أن يغضب عمرو. فأطيعيني وأنا حامل تبعة ذلك. فإن عبد الله يندر مثاله وأنا أفتخر بمصاهرته وليس هناك محل للاعتراض» قال ذلك وفي كلامه نغمة الجفاء على عادته معها إذا أراد الإصرار على أمر فخافت إذا جادلته أن لا تحسن العقبى فسكتت ثانيةً وأظهرت الارتياح فلما رآها كذلك قال لها «بورك فيك يا بنية وبعد أسبوع تكون كتابة الكتاب وتتم معدات الزواج».
فظلت ساكتة وقد عولت على اتخاذ وسيلة أخرى للتأجيل.