طارق مفاجئ
وكان منزلهُ في بعض أسواق الكوفة فوصلهُ وهو يظن نفسهُ لا يزال بعيداً عنهُ وإنما نَّبههُ إلى ذلك جعجعة جمل رابض في فنائهِ فظنهُ في بادئ الرأي جملهُ وهو يعهد أنهُ أرسلهُ إلى مأواه قبل خروجهِ. فدخل الفناءَ فرأى هناك جمالاً وأناساً كأنهم قادمون من سفر فبغت. فتقدم إليهِ واحد منهم ولم يكد يلقى عليهِ السلام حتى عرف أنهُ من رجال جده أبي رحاب فانذهل ولم يردّ التحية ولكنهُ قال لهُ ما وراءَك يا عبد الله ما الذي جاءَ بكم.
قال: إننا قادمون من عند جدك مولانا أبي رحاب.
قال: وما الذي حملكم على المجيء؟
قال: جئناك في مهمة مستعجلة.
قال: وما هي؟
قال: إن أبا رحاب بما تعرفهُ من شيخوختهِ وضعفهِ قد بعثنا نستقدمك إليهِ سريعاً.
فذهل وصاح قائلاً: وما الذي أصابهُ ألعلهُ مريض؟
قال: هو مرض الشيخوخة ولكنهُ مشتاق لرؤيتك وقد أمرنا أن نستقدمك حالاً.
قال: وأين هو؟
قال: هو في مكة كما تعلم.
قال: أَأَذهب إلى مكة الآن؟
قال: ذلك ما أمرنا بهِ فافعل ما بدالك.
فلبث مدة صامتاً يفكر ثم مشى وهو يقول لا حول ولا قوة إلاَّ بالله. وسار عبد الله في إثره حتى دخلا المنزل وهما صامتان. ثم التفت سعيد وهو ينزع عباءَتهُ وقال لابد من أمر ذي بال يدعوني جدي إليهِ فهل تعرفهُ؟
قال لا أخالهُ استدعاك إلاَّ ليراك قبل حلول أجلهِ لأنه شاخ وضعف وأنت تعلم أنهُ يحبُّك ولا رجاءَ لهُ سواك.
قال لا حيلة لنا في القعود فلنبت الليلة ونصبح مسافرين. وقضى ليلتهُ يفكر في قطام وسفره.
ولما أصبحوا ركب سعيد ناقتهُ وركب عبد الله ورفاقهُ حمالهم وهموا بالمسير فرأى سعيد أن يودع قطاماً قبل السفر فاستمهل رفاقه ريثما يعود إليهم وسار يلتمس منزلها وهو في لباس السفر. فلما أشرف على المنزل تذكر ليلتهُ بالأمس ولكنهُ لم يضطرب لانشغال خاطره في جده وقد خاف عليهِ الموت قبل وصولهِ إليهِ. ووصل المنزل فلقي ريحاناً فسألهُ عن قطام. فقال: أنها خرجت في حاجة وسوف تعود.
فقال: إلي أين ذهبت؟
قال: إلى مكان لا أدري أين هو.
فانشغل بال سعيد لخروجها في ذلك الصباح وهو لا يرى ما يدعو فتاة مثلها إلى الخروج فدبَّت الغيرة في قلبهِ فقال: وهل مضت وحدها؟
قال: سارت مع لبابة.
قال: أتظنها تبطئُ كثيراً؟
قال: لا أدري وربما ظلت إلى المساءِ أو الغد إذ يخيَّل لي أنها التمست بعض أهلها في مكان خارج الكوفة.
دار ذلك الحديث بينهما وسعيد لا يزال راكباً جملهُ يتردد بين أن ينتظر عودتها قبل سفره أو أن يسير. وود لو يعلم أين هي ليمضي إليها فيودعها ويُذهب شيئاً من غيرتهِ عليها. ولو تحقق مجيئها بعد ساعة أو بضع ساعات لفضل الانتظار ولكنهُ خاف أن يطول غيابها أياماً. فعوّل على المسير إلى مكة فقال لريحان: أَقرِ قطاماً السلام عند رجوعها وقل لها إني شاخص إلى مكة لأمر يدعو إلى الإسراع وقد جئت لوادعها فلم أجدها. على أني سأَعود قريباً بإذن الله.
قال: حسناً.
فودعهُ وعاد فانضم إلى رفاقهِ وسار يلتمس مكة وقلبهُ في الكوفة. ولم يكد يخرج منها حتى ندم على خروجه ولم ير قطاماً. ولكنهُ التمس عذراً لنفسهِ بما دعاه إلى العجلة من أمر جده.