الاستنطاق
فصبر عمرو لحظة وفي يده درة (سوط) يلاعبها بين يديه كأنه يتشاغل بها عن قلق يخامر ذهنه ففتح عبد الله الحديث قائلاً «كيف حال مولاي الأمير وما الذي يأمر به عبده فقد لبيت دعوته وأنا راج أن يكلفني أمراً أقضيه له جزاء لبعض ما له عليّ من الفضل».
فالتفت إليه عمرو وهو يمشط لحيته بأنامله وقال «إنما دعوتك لأسألك سؤالاً واحداً وأرجو أن تصدقني في الجواب عليه مما أحسني أجزلته لك من الجميل وألقيت عليك بعد أن رأيت الموت رأي العين».
فوقف عبد الله احتراماً وقال «يعلم الله أني لا أنسى جميلاً أوليتني إياه بإغضائك عن جريمة اقترفتها ثم بإنعامك عليّ بحياتي وهي خير هبة فكيف لا أصدقك؟»
قال ذلك وقلبه يخفق خوفاً من سماع ما قد يكون سبب نقمته عليه.
وأقعده عمرو قال «بلغني اليوم من مطلع على أحوالك أنك إنما جئت الفسطاط مع رفيقك سعيد للفتك بي هل ذلك صحيح؟»
فنهض عبد الله ثانيةً وقال ولهجة الصدق بادية على وجهه «كلا يا مولاي إن ما بلغك من ذلك محض افتراء».
قال «وما الذي جاء بكما إذاً؟»
قال «أما وقد سألتني عن ذلك فاسمح لي أن أقول الحق وأرجو تثق بصدق قولي».
قال «قل الصدق ولا تبال فلا بأس عليك إلا إذا رأيت في كلامك عوجاً فلا تلم إلا نفسك».
قال «أقسم برأس الأمير إني لا أقول غير الصدق ولكن حديثي طويل فهل أبسطه كله».
قال «أجبني أولاً على سؤالي مختصراً فإذا رأيت ما يدعو إلى التفصيل طلبته. سألتك عما دعاكما إلى المجيء للفسطاط والاجتماع بتلك الزمرة المعادية».
قال «إنما جئت للبحث عن المؤامر على قتل الإمام علي».
قال «ولماذا؟»
قال «لكي أبذل جهدي في زجره وإنقاذ الإمام من الموت».
قال «كيف تفعل ذلك وأنت أموي على ما أعلم».
قال «لقد ألجأتني يا مولاي إلى بعض التفصيل ألا تعرف جدي أبا رحاب».
قال «بلى أعرفه وقد سمعت بوفاته قريباً».
قال «نعم إنه مات وقد كان إلى يوم مماته يكره علياً ويدعو إلى قتله ولكنه في يوم مماته استحلفني واستحلف ابن عمي سعيداً أن لا نبغي شراً لعليّ بل إذا رأينا سبيلاً إلى الدفاع عنه أن نفعل. فلما سمعنا بالمؤامرة علمنا أن المؤامر على قتل عليّ من أهل مصر ولكنا لم نعلم من هو فجئنا للبحث عنه وردعه بالتي هي أحسن. ولم تر سبيلاً لمعرفته إلا بواسطة أصحاب عين شمس لأنهم على دعوة عليّ».
فقال «ألم تكن عالماً أيضاً بمؤامرة رفيق ابن ملجم على قتلي؟»
قال «بلى ولولا ذلك لم استطلع اطلاعك عليه».
قال «وكيف أنك لم تطلعني عليه حال قدومك ألا تعلم أنك تعد بذلك مؤامراً على قتلي؟» قال ذلك ولحيته ترقص من شدة التأثر ولسان حاله يقول لقد حججتك وغلبتك وأكدت خيانتك.
فقال «نعم أعلم ذلك ولكن حلمك قد وسعني من قبل وعفوت عما مضى وغمرتني بإنعامك فإذا رأيت أن تعود إلى مطالبتي به كان لك الأمر ولكنني لا أخال الأمير عمرو بن العاص إذا عفا عن مذنب أن يرجع عن عفوه».
فلما سمع عمرو كلامه أفحم وسكت.
وشعر عبد الله عند ذلك بقوة انبثت فيه وتارت الحمية في رأسه فهم أن يستأنف الكلام فابتدره عمرو قائلاً «ولكن بلغني أنك عرفت خولة قبل أن أخطبها لك وأنها كانت عالمة بخبر تلك المؤامرة فكيف لما ذكرتها لك ليلة الخطبة تجاهلتها».
فارتبك عبد الله في الجواب وكاد يعثر لو لم يثبت جأشه وقد عول على الصدق فقال «حاشاي ياي مولاي أن أخدعك فإني ورأسك وكل غال عندي لم أكن أعرف هذه الفتاة قبل أن ذكرتها لي وأمرت بأن تكون زوجتي».
فقال «وما تقول في سابق اطلاعها على خبر المؤامرة؟»
فتحير عبد الله في الجواب ولكنه فقه لباب يتخلص منه فقال «ذلك ليس لي أن أجيب عنه فإن خولة جاريتك وهي تجيب عن نفسها. ادعها إلى ما بين يديك واسألها ولا أشك في أنها تقول الصدق ولكنني أرغب إلى مولاي أن يخبرني عمن وشى بنا إليه لعلنا نكذبه بين يديه».
قال «سأجمعكم جميعاً وأسمع احتجاجكم جهاراً فإذا سمعت أقوالكم جازيت كلاً بما يستحقه. اذهب الآن إلى فراشك عندنا وغداً لناظره قريب» قال ذلك ونظر نحو الباب ونادى «يا غلام» فدخل رجل فقال له «خذ عبد الله إلى غرفة يبيت فيها الليلة هنا واتني به غداً متى دعوته».
قال سمعاً وطاعةً وخرج عبد الله والحاجب يسير أمامه حتى دخل به غرفة في دار الأمير التمس المبيت فيها ولكنه لم يغمض له جفن طول ذلك الليل.