الجلسة الخصوصية
ولما أصبح عبد الله تحير في هل يخرج إلى الأمير أم ينتظر أمره. ولبث جالساً حتى كان الضحى وإذا بالحاجب قد جاء يدعوه إلى مجلس الأمير في غرفة خاصة غير مجلسه الاعتيادي فمشى وهو يفكر في ماذا عسى أن يكون من أمر تلك الجلسة ومن هو الواشي وهل تستطيع خولة الدفاع عن نفسها بما يضمن نجاتها؟.
ولاحت منه التفاتة إلى ساحة الدار فرأى هناك عبداً تذكر أنه رآه ولم يلبث أن عرفه فإذا هو ريحان عبد قطام فاختلج قلبه في صدره وقال في نفسه إنها والله وشاية هذه الخائنة وأظنها أرسلت عبدها إلى عمرو كما أرسلته في المرة الماضية لعنها الله.
ومازال ماشياً وهو يفكر في ذلك وقد تغير سحنته من عظم التأثر فرأى الحاجب دخل باباً فدخل هو في أثره فإذا هو مقبل على قاعة في صدرها الأمير عمرو بن العاص كأنه جالس للقضاء وعليه جبة بيضاء وعلى رأسه عمامة كبيرة وقد قعد الأربعاء على وسادة من الدمقس وفي يده الدرة والسبحة معاً. فتقدم عبد الله تواً إليه فحياه ولم يلتفت إلى سواه. فأمره بالجلوس ببرود ظهر الفرق بينه وبين مقابلاته الأولى. فجلس عبد الله في بعض جوانب الغرفة وأرسل نظرة فرأى إلى جانبه عمه أبا خولة وعن يسار عمرو ثلاث نسوة قد أرسلن النقاب على رؤوسهم فلا يظهر منهن غير العيون من ثقوب فيه. فعرف منهن خولة ولم يكن يجسر على التفرس بالآخريين حياءً. فجلس وهو يسترق اللحظ ويفكر فخطر له أن إحداهن قطام جاءت هذه المرة لقضاء حيلتها بنفسها. ثم ما لبث أن عرف الأخرى فإذا هي لبابة العجوز فتحقق أنهما وشيتا به وبسعيد. وكانت قطام قد أبطلت الحداد على والدها وأخيها بعد قتل الإمام عليّ فارتدت كساء من الحرير المزركش بالقصب صنع بلاد فارس أحمر اللون ناصعه لا يستطيع لبسه الأغنياء وكان نقابها مزركش الأهداب بما يدل على بذخ وترب. وتصور عبد الله جمالها وفصاحتها وحيلتها فعلم أنها غلبت على رأي عمرو أقنعته أن عبد الله وخولة يستوجبان القتل أو نحوه فأخذ يتأهب للجواب.
ومضت برهة والكل صامتون وعمرو ينظر إلى الأرض والدرة في يد كأنه ينكث البساط بها ويده الأخرى على لحيته يلاعب شعرات منها بين أنامله والاهتمام باد بين حاجبيه. ثم رفع بصره ونظر إلى الباب ونادى غلامه فدخل فقال له «لا تستأذن لأحد بالدخول علينا ولا تدع أحداً يقترب من هذا الباب».
قال سمعاً وطاعةً وخرج.
ثم التفت عمرو إلى أبي خولة وقال «أهذا جزاء التفاتي إليك يا أبا خولة؟»
فوقف أبو خلولة وقد بغت وقال «وما ذلك يا مولاي. إني لا أعرفني إلا مخلصاً لك خادماً لمقاصدك».
قال «ربما كنت كذلك ولكن خولة هذه (وأشار إليها) تواطئ الناس على قتلي وتسعى في إنقاذ ابن أبي طالب».
فلما سمع أبو خولة قوله مشى مسرعاً حتى أمسك ابنته وقال «إني لا أعرفها إلا جارية من جواري مولاي فإذا ارتكبت شيئاً من ذلك فإني أذبحها بين يديك ودمها هدر لك» قال ذلك وجذبها كأنه يريد إيقافها وتقدميها إلى عمرو. أما هي فظلت جالسة ولم تبال.
فقال له عمرو «عد إلى مكانك ودعها تدافع عن نفسها فإني لا أريد أن أعاقبها إلا بعد المحاكمة فإذا صح ما قيل عنها كان القتل أخف قصاص لها».
فلما سمع عبد الله تلك اللهجة الشديدة اختلج قلبه في صدره وخاف عاقبة تلك الجلسة ولكنه تجلد وصبر.