دعوى قطام
ثم التفت عمرو إلى خولة وقال «ما تقولين يا خولة؟»
فوقفت وقالت بصوت رائق وجأش ثابت «ماذا أقول يا سيدي وأنا لا أعرف التهمة التي وشى بها إليك الواشون. فإذا سمعتها ذكرت لك الحقيقة ولك الأمر بعد ذلك فإذا استوجبت القتل فما أنا خير ممن قتل من رجال الإسلام في هذه الفتنة».
فعجب عمرو لتلميحها إلى أعظم ما حدث في تلك الأثناء فقال لها «مالك ولهذا الكلام يا خولة قولي ما جوابك على سؤالي؟»
قالت «إذا كان الأمير حرسه الله قد جعل دمي حلالاً إن ثبتت التهمة عليّ فليس أقل من أن أسمع نص الدعوى الموجهة إليّ».
قال «لقد صدقت وإني مطاوعك في جرأتك حتى تبدي كل ما لديك من أساليب الدفاع ولا أظنك أخيراً إلا مقرة بجنايتك لأنها ثابتة ثبوت النور في النهار اجلسي واستريحي».
فجلست.
فقال عمرو ووجه حديثه إلى قطام «ما قولك يا قطام بخولة وما تعرفينه عنها».
وكانت قطام كما بينا في فصل سابق لما ارتاح بالها من أمر عليّ وقتله وعلمت مما دار بين خادمها وبين بلال خادم خولة أنها تحب سعيداً وهي التي وجهت عبدها معه واستحثته في الوصول إلى عليّ قبل انقضاء الأجل المضروب لقتله. فحملتها الغيرة وهاجها حب الانتقام وطاوعها خلق السوء الذي فطرت عليه أن تأتي الفسطاط تشي بخولة وسعيد وهي لا تشك أنها تثبت الجناية عليهما فتتقرب بذلك من عمرو فتنال حظوة في عينيه فتقيم عنده مكرمة أو يتزوجها أحد أبنائه وكان عمرو يعرفها من ذي قبل. فأسرعت إلى الفسطاط ومعها عجوزها وعبدها فوصلت بالأمس وأسرعت إلى عمرو وبشرته بمقتل الإمام علي ووشت إليه بخولة وإنها كانت مواطئة لسعيد على إنقاذ الإمام عليّ وإنهما كان يعلمان خبر المؤامرة على عمرو وسكتا عنها وقد كان في إمكانهما لو أخلصا الخدمة لعمرو أن يطلعاه عليها فأعارها عمرو أذناً مصغية وبعث إلى عبد الله كما تقدم. ثم رأى من الحزم أن يجمع الجميع ويسمع جدالهم ومدافعتهم قبل إبداء الحكم.
فلما قالت خولة قولها في تلك الجلسة والتمس عمرو من قطام أن تبسط التهمة نهضت ومشت خطوتين نحو الأمير وثوبها المزركش يجر وراءها تيهاً وبذخاً. ثم وقفت وقالت بلسان طلق فصيح «أما ما يسألني الأمير عنه فلا احتاج في إثباته إلى دليل. وتفصيل الأمر أن مولاي الأمير يعلم إخلاصي له ورغبتي في خدمته حتى أني حالما سمعت بمجتمع العلويين في عين شمس بعثت إليه رسولاً يخبره خبر ذلك الاجتماع. ولو لم أجد من أبعثه في تلك المهمة لجئت بنفسي. ولم أذكر هذا الشاهد الصغير إلا دليلاً على إخلاصي. أما خولة واطلاعها على خبر المؤامرة فأمر لا شك فيه لأني أعلم علم اليقين أن سعيداً ورفيقه هذا (وأشارت إلى عبد الله) لما قدما الفسطاط كانا عالمين بخبر تلك المؤامرة وقد سمعت ذلك منهما بأذني. وهما إنما أتيا للاجتماع مع العلويين وبعثت يومئذ عبدي يخبر ذلك إلى مولاي الأمير فلما عاد عبدي أخبرني أن جند الأمير قبضوا على العلويين وأن عبد الله وسعيداً في جملتهم ولم يكن يعلم أن سعيداً نجا بمساعدة خولة هذه. أما أنا فإني عرفت ذلك لما عاد سعيد إلى الكوفة مسرعاً لاطلاع علي بن أبي طالب على خبر المؤامرة غيرة منه عليه وقد ترك حياة الأمير عمرو بن العاص في خطر القتل. وكان رفيقه في عودته بلال خادم خولة هذه فإنه صحبه إلى الكوفة. فالتقى بهما هناك عبدي ريحان واتضح له من خلال الحديث أن بلال وخولة عالمين بسر الأمر. ولما لم ينجح مسعاهما في إنقاذ الإمام عليّ قنعا بان يكون مولاي حرسه الله قد أصيب بما أصيب به ذاك. ولكن الله سبحانه وتعالى أنقذه من مخالب الموت وحرسه بعين عنايته فترى يا مولاي مما قدمته أن خولة كانت عالمة بخبر المؤامرة كما كان يعرفها عبد الله وسعيد فلو كانت مخلصة لمولانا الأمير ما كتمتها عنه».
فقال عمرو «وما الذي يؤكد لنا أن سعيداً وعبد الله لما أتيا الفسطاط كانا عالمين بالمؤامرة على قتلي؟»
وكانت لبابة العجوز صامتة إلى تلك الساعة فلما طرح عمرو هذا السؤال ابتدرته هي قائلة «لا شك أنهما كانا عالمين بها لأنهما أخبرانا بها ليلة سفرهما إلى الفسطاط».