زمان
لما أصر جيران الطابق العلوي على أن تغني شقيقتي الكبرى في السرادق المقام فوق السطح، ووافق أبي، أدركت أن هذه هي الفرصة التي طال ترقب شقيقتي لها.
كانت تحب الغناء. تكتفي بالدندنة الهامسة. إن علا صوتها بالانسجام، نهرها أبي: بس يا بنت!
بعد رحيل أمنا، وجدت نفسها مسئولة عن البيت قبل أن تبلغ الرابعة عشرة. تنازلت عن الكثير من طموحاتها، ومنها أن تمضي في خطى ليلى مراد، فتصبح مطربة مشهورة.
كان أبي مثقفًا ليس بمجرد الحصيلة المعرفية، وإنما باستنارة آرائه، وإلحاحه الدائب على المثل الأعلى، والأكثر جدوى لجماعة الناس. ولم يكن يخفي إشفاقه من المسئولية التي بدلت حياة شقيقتي في سن باكرة … لكن السير في حقل الألغام المسمى «الفن» — هذا هو التعبير الذي يحضرني — كان يزعجه. ألمح الإعجاب في تعبيرات وجهه بدندناتها الآتية من المطبخ، فإذا تحولت الدندنة إلى غناء حقيقي، أسكتها — من موضعه — بلهجة حاسمة.
فاجأَتْ أختي — وفاجأتني — موافقة أبي على أن تغني في حفل الجيران. تصورتُ الحفل مناسبةً لتقديم الصوت الجميل، ينصت إليه من يُعجَب به، فيقتنع أبي بأن تسير في الطريق إلى نهايتها، وتصبح — كما كنت أتمنى — في مكانة مطربتنا المفضلة ليلى مراد.
وقفتُ في آخر السرادق، أنصت إلى غناء أختي: اتمخطري واتمايلي يا خيل. أعتبر استعادة الحضور اعترافًا بجمال صوتها، وإن لم يجاوز ما حدث حفلًا حضره بضع عشرات، غالبيتهم من ربات البيوت والأطفال.
تزوجت شقيقتي، وأنجبت، وعملت مدرسة في ليبيا مع زوجها مهندس البترول. تزور الإسكندرية في إجازة الصيف.
نتذكر ما كان.
أقول لها مداعبًا: لا أستغرب أن تكون ليلى مراد تآمرت عليك، حتى لا تأخذي مكانتها!