ليه يا بنفسج
كان أبي يحب الغناء القديم، ويحب الأصوات التي تحرص على التطريب: أم كلثوم وعبد الوهاب وليلى مراد وهدى سلطان وشهرزاد وعباس البليدي ومحمد فوزي وغيرهم.
كانت أحب الأغنيات إلى نفسه أغنية صالح عبد الحي: «ليه يا بنفسج بتبهج … وانت زهر حزين». يحدثنا عن دلالة الكلمات، وجمال اللحن، وعذوبة الأداء، والتطريب. التطريب — في رأيه — هو ما يميز الأغنية العربية.
ظل أبي ينام على كرسي أعوامًا طويلة، يجلس عليه، ويسند ذراعيه على كرسي آخر. المرة الوحيدة التي تصور فيها أنه يمكن أن ينام على السرير، لحقته أزمة الربو، وأيقنت أمي أنه مات.
مثلما كانت طريقة نوم أبي غير عادية، فقد كان نومه كذلك غير عادي؛ لحظات إغفاء متقطعة، يصحو منها على ألم في الكوعين، أو الساعدين، يحركهما في الهواء، ويضع فنجان القهوة على السبرتاية وهو يدندن بأغنيات يحبها، أذكر منها أغنية صالح عبد الحي.
كان النوم يفاجئ أبي وهو في طريقه إلى المطبخ، أو إلى دورة المياه، يسقط من طوله، نصحو على صوت ارتطام جسده بالأرض، نفزُّ من أسرَّتنا، ونجري ناحية الطرقة، يلوِّح بيده وهو في موضعه، بما يعني طمأنتنا، تمتد أيدينا تعينه على القيام.
تكرر الأمر كالنسخ الكربونية، نصحو على صوت الارتطام، نجري — يسبقنا التوقع — ناحية الطرقة.
صرنا نفزُّ من أسرَّتنا لأقل صوت. نحدُس أن النوم فاجأ أبي في سيره. تعذَّر — لظروفنا المادية السيئة — تنفيذ ما اقترحته أختي، بأن نفرِش «أَكْلِمة أسيوطي» في المسافة ما بين حجرة أبي والمطبخ، آخر الطرقة.
عرضت أختي أن تنام في حجرة أبي. نومها خفيف، فهي تصحو على حركة أبي بين حجرته والطرقة المفضية إلى المطبخ ودورة المياه.
صحونا — ليلة — على ترنم أختي بأغنية صالح عبد الحي، وصوت أبي يعلو بالثناء: لو مش عيب … كنتي بقيتي مطربة قد الدنيا!